مقالات

آخر سيارة أجرة إلى أوروبا

شارك هذا الموضوع:

*ألبرتو هايملر

إن التباين بين مقاومة أوروبا لخدمة  ” أوبر ” ولاستقبال الأكثر تحمساً لخدمة مشاركة الركوب يسلط الضوء مرة أخرى على الكيفية التي انتهت بها البنية التنظيمية الأوروبية، المصممة من حيث المبدأ لحماية المستهلكين، إلى حماية موردين راسخين وخنق الإبداع. وهذا التناقض من الممكن أن يرشدنا أيضاً إلى السبل التي يتعين على الحكومات في أوروبا أن تنتهجها لتعديل قواعدها، وتشجيع رجال الأعمال على تطوير نماذج أعمال متطورة في الداخل بدلاً من الاضطرار إلى قبول الإبداعات والابتكارات فقط بعد أن تصبح أفضل الممارسات في الخارج.

وإن الاحتجاجات المناهضة لخدمة أوبر التي ينظمها سائقو سيارات الأجرة تشكل جزءاً من تقليد قديم يمارسه الموردون الراسخون في تحدي التكنولوجيات الجديدة التي قد تكلفهم وظائفهم. ولكن عندما، على سبيل المثال، احتج اللوديون (مناهضو الآلات) في أوائل القرن التاسع عشر ضد آلات النسيج المخترعة حديثاً بتحطيمها، لم تتدخل السلطات لتقييد التكنولوجيات الجديدة. ونتيجة لهذا، أدت الثورة الصناعية في نهاية المطاف إلى زيادة غير مسبوقة في مستويات المعيشة في مختلف أنحاء العالم.

لكن بحلول الوقت الذي بدأت فيه المتاجر الكبرى تدخل قطاع التجزئة في النصف الثاني من القرن العشرين، تغير نهج الحكومات الأوروبية. ففي أوائل سبعينيات القرن، استنت العديد من الدول قواعد تنظيمية لحماية المتاجر الصغيرة القائمة من المنافسة؛ ونتيجة لهذا، تأخر تطور أنظمة التوزيع الأكثر تطورا. وبعد جيل كامل، ألغيت هذه القيود استجابة للضغوط من قِبَل المستهلكين.

ولكن كما تُظهِر الاستجابة لخدمة أوبر، لم تتعلم حكومات أوروبا الدرس ــ ويعاني الاقتصاد الأوروبي نتيجة لهذا. والمشكلة هي أن الدخول إلى أي سوق يعتمد على الفرص المتصورة للربح من المبادرات الجديدة عند نقطة معينة من الزمن. وقد تؤخر التنظيمات دخول السوق، ولكن التكنولوجيا لا يمكن منعها إلى الأبد؛ وسوف يخترق الداخلون الجدد كل الموانع في نهاية المطاف. ولكن نماذج أعمالهم قد لا تظل مربحة، أو ربما تكون أقل ربحية مما كانت لتصبح لولا ذلك.

والواقع أن ميزة المبادر الأول في السوق شائعة في العديد من الصناعات، وذلك نظراً للاقتصاديات الضخمة، أو لأنها تقتطع قاعدة من العملاء، أو ببساطة كنتيجة للتكاليف المنخفضة. وفي حالة الأسواق “المنصات” بشكل خاص، حيث تستغل الشركات الاستثمارات السابقة لضمان الدخول إلى أماكن أخرى، فإن هذا يعني أن التأخيرات الناجمة عن القيود التنظيمية غير المبررة من الممكن أن تخلف تأثيرات سلبية أشد عمقا، فتمنع الشركات التي ربما تحقق النجاح من الدخول إلى السوق.

وعلى سبيل المثال، في إيطاليا، التي لم تحرر قطاع التجزئة لديها إلا في عام 1998، عدد سلاسل البقالة اليوم أقل من مثيله في فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة. والواقع أن السلاسل في هذه البلدان، والتي سُبِكّت في نيران المنافسة في الداخل، تهيمن الآن على الأسواق الناشئة في أوروبا وأماكن أخرى. وفي إيطاليا، كانت القيود التي فرضت على المتاجر الكبرى سبباً في إكساب الشركات القليلة التي تمكنت رغم هذا من القيام والنمو قوة كبيرة في السوق الداخلية، ولكنها جعلتها أضعف من أن تتمكن من التوسع في الخارج.

وعلى نفس النحو، تعمل القيود المفروضة في أوروبا على سوق خدمات السيارات على منع رجال الأعمال في البلاد من تطوير خدمات مثل أوبر. وكمثل سلاسل المتاجر الكبرى، تعتمد شركة أوبر على الاقتصادات الضخمة للسماح لمنصتها بالعمل بكفاءة. ومثلها كمثل أي منصة، بدأت أوبر صغيرة، فكانت تغطي تكاليفها الثابتة عن طريق التوسع خطوة بخطوة. والآن بعد أن حققت النطاق الأدنى من الكفاءة، فإن الداخلين الجدد لن يتمكنوا بسهولة من استخدام الضغوط التنافسية لتحجيم هوامش أوبر.

وعندما بدأت شركة أوبر في سان فرانسيسكو عام 2009، لم يكن دخولها السوق موضع منافسة ولم تخضع لعملية ترخيص صعبة. وبالتالي، تمكنت أوبر من اختبار نموذج أعمالها الجديد ــ استناداً في ذلك الوقت إلى توفير السيارات الفاخرة ــ والنمو، أولاً في سان فرانسيسكو ثم في مدن أميركية أخرى، وفي نهاية المطاف توسعت إلى بلدان أخرى ( فضلاً عن استخدام منصتها للدفع بنفسها إلى خدمات أخرى).

في إيطاليا، وعلى النقيض من ذلك، كان حتى مجرد تقديم خدمات السيارات الفاخرة عن طريق تطبيقات الهواتف الذكية ممنوعا. فبموجب القانون الإيطالي، يتم تعريف خدمات السيارات المتاحة للإيجار بصرامة ودقة بوصفها تلك التي تبدأ من المرأب حيث تتوقف السيارة، ولابد من حجزها مقدما. ولأن تطبيق أوبر يحاكي خدمات سيارات الأجرة، فإنه كان ليصبح محظورا؛ وما كانت شركة أوبر لتتمكن أبداً حتى من البدء في تطوير منصتها.

ويصدق هذا على العديد من البلدان والصناعات الأوروبية الأخرى، حيث تعمل البنية التنظيمية على حماية الموردين أكثر من حمايتها للمستهلكين، مما يعيق الابتكار والإبداع. وفي الولايات المتحدة، نادراً ما يُمنَع الداخلون الجدد المبدعون إلى السوق، ولا يحدث هذا إلا إذا كان مبرراً بشكل ساحق لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة. ولهذا السبب تمكنت شركة أوبر (مثلها كمثل العديد من المنصات الأخرى في العديد من القطاعات الأخرى) من النمو هناك وتحقيق الحجم الأمثل للتوسع.

وإذا كان لأوروبا أن تزدهر، فيتعين عليها أن تعمل على تسهيل دخول المبدعين إلى السوق، حتى يتسنى للمنصات الجديدة أن تتطور محليا، بدلاً من الانتقال إلى الداخل بعد أن تصقل في مكان آخر. وينبغي لنا أن نقدر قيمة الإبداع الذي يجلبه الداخلون الجدد إلى السوق أكثر من تقديرنا لقيمة حماية المشاركين القائمين في السوق.

ومن الممكن أن يتحقق هذا من خلال تبني التنظيم القائم على النتائج والذي يهدف إلى حماية المستهلكين، وليس المنتجين. ورغم أن هذا قد يعني في بعض الحالات ببساطة تغيير الطريقة المستخدمة لتفسير وتطبيق القواعد القائمة، فإن التنظيمات نفسها لابد أن تتغير في كثير من الأحوال.

ويظل بوسع الداخلين الجدد أن يغيروا البنية التنافسية لمنصات الأسواق الناضجة ــ ليس سيارات الأجرة فحسب، بل وأيضاً السياحة، والائتمان الاستهلاكي، والعديد من الخدمات الأخرى. ومع تبني التنظيم القائم على النتائج، فربما يصبح بوسع الداخلين المبدعين التأثير على البنية التنافسية في أسواق أخرى ما تزال ناقصة النضج، مثل الرعاية الصحية، والعقارات، والخدمات المهنية.

وفي كل الأسواق، عندما يتمكن المبدعون من الدخول بسهولة ولا تعرقلهم تنظيمات غير مبررة، فإن الفوائد تعم على الجميع ــ بل وقد يستفيد في نهاية المطاف حتى أولئك الذين تتعرض مهنهم للتعطل أو النزوح. وما علينا إلا أن نسأل أي صاحب مهنة تعلم في الجامعة من ذرية عمال النسيج في القرن التاسع عشر.

*ألبرتو هايملر أستاذ الاقتصاد في كلية إدارة الوطنية في روما

المصدر : صحيفة الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى