الشركات الناشئة أشبه بالروايات، فهي تجسد شخصيات وحبكة ودرجة عالية من الصراع، ولكن مثل كثير من القصص، من غير المرجح أن يكتب لها النجاح إذا كانت الشخصيات مملة، والحبكة غير جيدة، والصراع خاليا من الأحداث. فهم القصص الكامنة خلف نجاح الشركات الناشئة، بالإمكان الاعتماد عليها كمرجع لتحقيق النجاحات. مع الأخذ في الحسبان، أن الأدلة المهمة على نجاح الشركات الناشئة، نجدها من خلال دراسة وتحليل قصة نجاحها.
اتخذت خطواتي الأولى نحو الكتابة قبل بضع سنوات، حينها قمت بتأليف كتاب تجسد شخصياته أعظم الفضائل، وافترضت في ذلك الوقت أن القراء يفضلون الشخصيات الفاضلة، ويقدرون الصفات الحميدة ويسعون إليها؛ ففوجئت عندما ظنت المحررة أن شخصياتي تعكس سذاجة كتاباتي، فهي لم تكن شخصيات حقيقية، أو بشرية، وخالية من أي شخصيات رمادية. وقيل لي حينها: “إن القارئ يجب أن يكون قادرا على التماهي مع الشخصيات”.
أدركت مع مرور الوقت ما كانت ترمي إليه، فكانت شخصياتي تحاول أن تثير إعجاب القارئ، في الوقت الذي يجب أن تحاول التواصل معه أولا. وبالمثل، في محاولتنا لتصوير أنفسنا كأشخاص خالين من العيوب والأخطاء، نُوجِد حالة من الرهبة بدلا من المودة، ويمكن أن تتحول هذه الرهبة إلى ازدراء بسرعة في حين تُنشئ المودة روابط طويلة الأمد.
تحتاج الشركات الناشئة إلى فريق عمل ملتزم، وليس متقلبا بين الازدراء والرهبة، والنشوة واليأس. وهناك طريقة واحدة لبناء مثل هذا الفريق، وهي البحث عن “الجانب الإنساني”. تنتهج أساطير الشركات الناشئة البعد الإنساني بشكل لا يصدق؛ فمارك زوكربيرج مع سرواله الجينز والقميص خلف مكتبه الشهير في المقر الرئيس لـ”فيسبوك”، وإيلون ماسك الذي يعتمد اللغة العامية، وينثر أثناء حديثه، جعل منهما أشخاصا “حقيقيين” بدلا من تماثيل رخامية مصقولة بالفضائل الإنسانية. ربما استعان مثل هؤلاء الأشخاص الناجحين بآخرين على الدرجة نفسها من الإنسانية، وأقاموا شراكات داخلية وخارجية قوية. بكل بساطة، الحبكة هي الطريقة الفريدة التي تدور حولها الرواية من البداية إلى النهاية. تركز الشركات الناشئة عند توجهها إلى المستثمرين على الحبكة بشكل أساس، على أمل أن تكون مقنعة بما فيه الكفاية، ولكنها تحتاج إلى بداية ونهاية على القدر نفسه من الوضوح لطرح قصة جيدة. غالبا ما تكون انطلاقة المغامرات الكبرى ضعيفة وتثير الارتباك، مثل قصص الشركات الناشئة التي تواجه صعوبة كبيرة للتوفيق بين أهدافها الطموحة وبداياتها الشاقة. ورغم ذلك لا يوجد مبرر للقلق طالما أن الطريق واضحة. وتوضح القصة التالية كيف يمكن لمغامرة غيرت العالم أن تبدأ بشكل متواضع:
بعد ظهر يوم 24 أيلول (سبتمبر) 1599، اجتمع 24 من التجار في مبنى متداع في لندن، وفقا لكتاب “الحرية في منتصف الليل” لكل من لاري كولينز ودومينيك لابيير. كان الأمر قد أخذ حده، ولم يعد بمقدورهم التساهل مع الزيادة الأخيرة في سعر رطل الفلفل من قبل البائعين الهولنديين؛ حيث سيطر الهولنديون على تجارة التوابل في ذلك الوقت، وكانوا قد رفعوا الأسعار إلى حد أثار سخط التجار الإنجليز. وردا على ذلك، قام التجار البريطانيون سريعا بتأسيس شركة برأسمال صغير، وحصلت على ختم الملكة الذي يمنحهم حقوقا حصرية التداول في بلدان ما وراء رأس الرجاء الصالح. بعد بضعة أشهر؛ أي عام 1600، رست سفينة هيكتور التي أرسلها التجار في سورات، بالقرب من مومباي.
بدأت رحلة ثلاثة قرون ونصف على الطريق إلى الهند، قامت خلالها شركة إيست إينديا، “الشركة التي أسسها 24 تاجرا ساخطا”، بالتجارة مع البلاد، وأسست جيشا لحماية تجارتها، وفي النهاية استخدم هذا الجيش في استعمار الهند.
هناك قصة أخرى مشابهة عن الشركات الناشئة؛ حيث كانت نقطة الانطلاق لحصول الهند على حريتها. تم إلقاء محام شاب يدعى موهانداس كرمشاند غاندي من عربة الدرجة الأولى في قطار في جنوب إفريقيا؛ كونه هنديا. وتعهد وقتها بإنهاء هذا التمييز، أولا في جنوب إفريقيا ومن ثم لاحقا في الهند. استطاع مهاتما غاندي باستخدام طرق غير تقليدية، طرد الإمبراطورية البريطانية، وتأمين الحرية الكاملة إلى الهند.
نجد مما سبق أنه قد تكون بدايات الرحلات الكبرى أو العادية متواضعة جدا؛ لذلك تحتاج إلى نقطة البداية لتكون واضحة، وليس بالضرورة رائعة.
من واقع خبرتي، معظم الشركات الناشئة المفعمة بالطاقة تقع في خطأ السعي وراء أهداف عدة. وكما هو الحال مع الروايات، فإن الوقت عامل مهم بالنسبة للشركات الناشئة، ومن الأفضل إنجاز الشيء الأهم الذي يساعدها على استكمال القصة المقبلة. وبإمكانك دائما كتابة “تتمة”، شريطة كتابة القصة بشكل صحيح.
من واقع خبرتي فإن القصص العظيمة متى بدأت تكمل نفسها، وتكتسب الظروف والشخصيات حياة خاصة بها مع مرور الوقت، وتقع على عاتقها مهمة إعطاء الرواية زخما لا ينضب، ويحد ذلك من دور المؤسس، ولكن ليس بشكل كامل، فبدلا من أن تكون مؤلفا للرواية، تصبح جزءا منها.
ليس من السهل التخلي عن وهْم السيطرة، ولكن يتطلب من مؤسسي الشركات الناشئة أن يصبحوا في نهاية المطاف موظفين أكثر من كونهم مديرين، وعليهم أن يسمحوا للشركة بأن تكون لها هويتها الخاصة، المحكومة جزئيا بأهدافها “التي اتفق عليها فريق المؤسسين” والجزء الآخر، بالدوافع الحالية، التي ستتجلى في النهاية بطريقة تفاعل فريق العمل، والموارد والفرص والتهديدات. فبمجرد التخلي عن أسلوب متابعة الأعمال عن كثب، تنبثق الفرص بشكل يفوق جميع التصورات.
وأخيرا، في كل قصة عظيمة، تسير الأمور نحو الأسوأ قبل أن تشهد تحسنا ملحوظا. فلابد أن تختبر العتمة قبل أن ترى النور الذي يعطي الشعور بالفرح المطلق للقارئ.
كما يكون ثمن المجد الشخصي في الروايات العظيمة مكلفاً جدا، وحصيلة جهد استثنائي. وبالمثل، ففي الشركات الناشئة الناجحة، يتطلب المجد الشخصي، “الحافز الأول لكثير من مؤسسي الشركات الناشئة”، أن يكون مكتسبا، ويأتي بعد صعوبة بالغة. فالمجد الشخصي لا يمكن أن يشترى قط بثمن بخس. وسبق أن قال الراحل سومانترا جوشال، وهو أستاذ سابق في كلية إنسياد: “التحول من يرقة إلى فراشة يعطي شعورا جيدا، ولكن تخيل ما يحدث لليرقة خلال عملية التحول. فأولاً تصاب بالعمى، ومن ثم تخسر أقدامها، وأخيرا، يتشقق جسدها ليسمح للأجنحة الجميلة بالظهور. بالتفكير في كل هذا الألم والخوف الذي تمر به، فأي يرقة ستختار اجتياز ذلك بملء إرادتها لتقوم بعملية التحول هذه”.
قد نواجه الخوف والألم دون أن نتوقع ذلك، ولكن عند المواجهة تظهر غريزة البقاء، وتساعدنا على “اغتنام الفرص”.
هناك أربعة أشياء يجب على الشركات الناشئة فعلها: أولا، بناء فريق عمل يتسم بالمهنية، وتقبّل الاختلافات الفكرية. تعرف على الوجه الحقيقي لأعضاء فريقك بعيدا عن الأقنعة الاجتماعية التي يرتدونها. ثانيا، التفكير في حبكة مقنعة، ونقطة بداية ونقطة نهاية؛ فالطريق لن يكون واضحا في حال كانت النهاية كذلك. ثالثا، اسمح لشركتك بأن تكون لها هويتها الخاصة ضمن الحدود التي رسمتها. رابعا، المجد الشخصي لا يأتي بسهولة. ليس المطلوب من الأشخاص أن يتحلوا بالشجاعة، ولكن يحتاج مؤسسو الشركات إلى العزيمة إذا ما جاءت الريح بشكل معاكس، على أمل أن يكون لديهم فريق عمل يساعدهم على اجتياز هذه الرحلة.
الاقتصادية