هاشتاق عربي
فازت الروائية سميحة خريس بجائزة كتارا للرواية العربية في فئة الروايات العربية المنشورة، التي أعلنت نتائجها مساء أول من أمس، في العاصمة القطرية الدوحة، عن روايتها “فستق عبيد” الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وهنأ وزير الثقافة نبيه شقم خريس بفوزها الذي اعتبره إنجازا ثقافيا وإبداعيا يسجل لها، موضحا ان هذه الجائزة تؤكد مكانة الرواية الأردنية في الوطن العربي التي ساهمت في إثراء المكتبة العربية بمؤلفات ذات قيمة إبداعية متميزة، وضعت الروائي الأردني في مصاف الروائيين الكبار.
وأشاد بالتجربة الروائية لخريس التي استقطبت الكثير من الأكاديميين والباحثين والنقاد، والقراء من العالم العربي، والعالم عبر ترجمة أعمالها الى اللغات الأخرى.
وأشار إلى أن وزارة الثقافة تعمل على ترجمة إحدى رواياتها الى اللغة الانجليزية بالتعاون دار نشر جامعة متشيغان في الولايات المتحدة الأميركية.
خريس، ومنذ مجموعتها القصصية الأولى “مع الأرض”؛ في العام 1978، لم تكف الروائية سميحة خريس عن اجتراح أشكال وتقنيات ورؤى ومضامين جديدة تطرحها في إبداعاتها، وهي التي اختارت الشكل الروائي للتعبير عن رؤيتها للعالم؛ ماضيه وحاضره، ومحاولة استشراف مستقبله.
في رواياتها منحى ظاهر بالاشتغال على الحكاية التاريخية التي برعت فيها تماما، وقد تجلى ذلك في كثير من أعمالها الروائية: “شجرة الفهود” بجزأيها، “القرمية”، “دفاتر الطوفان”، و”يحيى”، وهو اشتغال فيه الكثير من الحرفية والتأني، لكي تمنح الحكاية؛ بمتنها ومبناها، سمة الواقع الحقيقي، ومن أجل أن يأتي تطور الشخصيات واقعيا يأخذ في الحسبان البنى الاجتماعية السائدة في سيرورتها؛ ازدهارا وإخفاقا.
ولكن خريس لم تكتب الرواية التاريخية فحسب، بل قدمت تنويعات عدة، كرواية الذات والغرائبية والرمزية، وهي تقترح النوع أو الشكل الروائي الذي تعتقد أنه يخدم فكرتها، ويستطيع التعبير عن مضامين الرسالة التي تريد إيصالها.
في روايتها الجديدة “فستق عبيد”، تعود خريس إلى التاريخ، لتنبش فيه، وتحاول أن تقدم محاكمة لفترة سوداء من عمر البشرية، وهي تعري الإنسانية التي تواطأت على شرعنة استعباد الإنسان لأخيه. وفي سبيل ذلك، تنطلق الرواية، مكانيا، من السودان، غير أنها تحلق في أمكنة أخرى عبر حكايات الجد كامونقة الذي يروي قصته مع الاختطاف وبيعه في سوق النخاسة، وأيضا عبر مرويّات حفيدته رحمة وحكاية عبوديتها، إضافة إلى شخصيات أخرى، تروي حكاياها.
وفي ثنايا ذلك السرد، الذي يبدو للوهلة الأولى سردا ذاتيا للشخصيات، تظهر الأحداث التاريخية التي عاشتها السودان في تلك الفترة، كثورة المهدي وحربه ضد الإنجليز والمصريين، لكن جوهر الرواية يبقى إدانة العبودية ورفضها، عبر أرواح مهشمة أصابها الداء، ومن الجانبين؛ المستعبَدين والمستعبِدين.
خريس كانت أشهرت روايتها في منتدى عبد الحميد شومان أواخر أيار (مايو)، مؤكدة أنها في “فستق عبيد” تقف على ثيمتين أساسيتين، الأولى: مفهوما الحرية والعبودية اللذان شكلا بؤرة الصراع في الرواية، إذ أنهما “ظلا يلحان عليّ بدء من روايتي “يحيى” مروراً برواية “بابنوس” وربما في كل نص نكتبه، فنحن نحفر في أصل التوق إلى الحرية، سواء الشخصية منها أم تلك الحرية التي تعني أوطاناً تمتلك ارادتها، وتنزع قيدها، إلى أبشع حالات الاستعباد، حين يبيع الإنسان انساناً آخر ويشتريه”.
أما الثيمة الثانية فترى أنها “تتعلق بالزمان والمكان، حيث لم أكن في زمان أحداث الرواية، ولم أعرف المكان معرفة حسية مباشرة، ما شكل لي تحدياً كبيراً، ظللت في شك من أمري في إدارته وأنا أكتب، رغم ما بذلت من بحث واستقصاء، إلا أني في نهاية الأمر اقتنعت أن الكاتب يكتب عن زمان يشكله ومكان يخصه، وليس مجرد عين للكاميرا التي تنقل التفاصيل كما هي، قد يختلف المكان وأحداث ذلك الزمان في روايتي عن الحقيقة الماثلة، ولكنه يمتلك شرعيته في أنه من تشكيلي واقتراحي على الفن”.
وتضيف “لم تنته الحكاية حين تركت بطلتيّ روايتي السابقة “بابنوس” تعرضان مائلتين في قفص زجاجي في واحدة من بيوت بيع النساء في باريس، ظلت جدة بابنوس التحفة الأفريقية السمراء تلح عليّ طالبة أن أعود إلى حكايتها الدامية، وكأنها أصل الحكايات، ولم أكن أنا نفسي قد اكتفيت من البحث عن تاريخ البشرية مع الرق، ولا أظنني أكتفي، لأن أساس المسألة هو نبش متعلقات الحرية وحق الانسان في العيش الكريم، كما أن هذا الاختيار هو اختيار الكتابة، ولعل كل ما نكتب من روايات يدور حول تلك النقطة البعيدة القريبة المتعددة الأشكال والأسماء”.
وتبين أنها ما أن انتهت من كتابة الراهن المتعلق بدارفور، “وتكالب الغرب والشرق والبشر من كل لون ومذهب على الاستفراد بالإنسان المسالم، كما يفعل ذئب مع قطيع، حتى عدت بالزمن بحثاً عن تاريخ تلك الظاهرة التي تؤشر على خلل بيّن في منظومة الأخلاق والحضارة، أعني بذلك منظومة الرق”.
وتؤكد خريس أنها استخدمت “فستق عبيد” كعنوان، وهي تدرك تماما وطأته الشديدة في السودان، فـ”كلمة العبيد توغل في جرح أخلاقي وإنساني، أما تلك الاستهانة التي يتعامل بها الشوام مع التعبير، فإنها تجريح مرفوض”.
وتبين أنها تدخل الرواية من حقل الفستق “الذي زرع حتى يشبع الأحفاد تغريهم حفناته في أكف الخاطفين، يتحدث الجد “كامونقه” عن الحلم الذي خاتله بالحرية، والسراب الذي تبعه بحثاً عن عالم أكثر عدلاً، أتوقف عند الثورة المهدية التي تمردت على إنجلترا العظيمة، وأحاول تفكيك تلك الأمنيات المستحيلة التي تجعل شعباً بسيطاً يتحدى القوة العظمى في العالم آنذاك، ووسط تلك المعالجة يبرز كثيرون ساهموا في ظاهرة الرق، عرب وأفارقة ومسلمون ومسيحيون. العالم كله يمور، ولكن الإنسان السوداني يصارع بسلاح الايمان وحده وبقوة الحلم فحسب”.
وترى أنه “من تلك المعاناة تتناسل معاناة فادحة حين يتسع عالم الطامعين، وتتقدم الحفيدة “رحمة” بحكاياتها الموجعة، ليكون خاطفو الطفولة من العرب ثم اليهود الجزائريين ذوي الأصول الفرنسية، وتبدأ رحلة طويلة تخرج فيها رحمة وقد فقدت حريتها تجوب العالم، من الجزائر إلى البرتغال ثم جزيرة سانتو انتاوا المنسية في الرأس الأخضر وسط المحيط الأطلسي”.
وتبين أنها وأثناء الكتابة “كان السؤال يقف في الحروف، ما أهمية الذهاب إلى التاريخ والكتابة حول ظاهرة لم تعد تمارس، بينما الوضع الراهن يشتعل من حولي؟ وكانت خطى الكلمات بطيئة وهي تدافع عن نفسها بأن الرق وجه من وجوه غياب الحرية، لعله أشد الوجوه قبحاً، وإن اختلفت المسميات التي نطلقها على استعباد بعضنا البعض، أو الأزياء التي نلبسها لحياتنا، والنظم التي نسوسها لتحويل الظاهرة إلى جديدة أنصع بياضاً، إلا أننا ما زلنا نعيش الرق، مستلبين وسالبين، مضطهدين وطغاة”.
وتضيف “خرجت ببطلتي في جولة تجتاز فيها البحر المتوسط وصولاً إلى الأطلسي في زمن تقع فيه الحرب العالمية الثانية، بكل ما فيها من عنف وقوة هزت أوروبا، أعيد تشكيل مراكز القوى، وتغيرات الأوضاع في البرتغال تحديداً، حيث تقضي البطلة شطراً من حياتها، لتكون نهايتها مأساوية مع الجذام والإبعاد إلى جزيرة تتشكل فيها نواة تمرد الأفريقي على العبودية”.
وتختم بالقول “لم تكن هذه النهاية الموجعة رهاناً على غياب الأمل، رغم قسوة مصائر الشخصيات، الذي أردت من خلاله ادانة ضمير القارئ والانسان المتمتع بمدنيته الغافل عن قبح العالم، كان رهان الأمل يتعلق بالصغيرة تركية أو لوسيا ابنة رحمة، والتي تكشف رواية “بابنوس” رحلتها الدائرية عبر العالم واغتيال ذلك الأمل الطفيف”.
وفي مداخلتها تحت “جدلية السيد والعبد”، في حفل الإشهار، رأت د.رزان إبراهيم أنك لا تملك وأنت تقرأ “فستق عبيد” إلا أن تفكر بأن كاتبتها قامت باستخراجها من كومة أحداث تاريخية متفرقة، كانت كما المادة الصلصالية الأولى، غرفت منها وجمعتها وأعادت بناءها لتستوي منجزا متخيلا يصطرع في داخله أكثر من صوت، وأكثر من رؤية، وأكثر من سردية، فأمامنا رواية ترفض الأوحدية، وتنهض على تعددية الأصوات، غايتها لغة تحررية تترك المساحة واسعة لشخصياتها للتعبير عن وجهات نظرها في علاقة حوارية متبادلة، دون أن يمتزج وعي أي من هذه الشخصيات بوعي المؤلفة بطريقة فجة ومنفرة. وإذ تتخذ الروائية هذا المسار في روايتها، فإنها بذلك تكون قد اختارت لغة تمنح ذوي البشرة السوداء فرصة نادرة ثمينة كي يحكوا حكايتهم في عالم حكم عليهم عبر سنوات طويلة بالصمت المطبق، وتكون بذلك قد رفعت من وتيرة تصعيد التمثيل المضاد. حري بنا عند هذه النقطة التفطن إلى ما حرصت عليه الكاتبة من عدم حجب الصوت المهيمن، ذلك ان التمثيل الأحادي كما يقول إدوارد سعيد مستحيل، ومن هنا يحضر مصطلح القراءة الطباقية التي تدخل في حسابها عملية الهيمنة من جهة، وعملية مقاومة هذه الهيمنة من جهة أخرى، وتكون بذلك قد فتحت الباب واسعا للرد من خلال واحدة من أخطر وسائل تمثيل الذات ووصف الآخرين.
وبينت أن أبطال هذه الرواية يتوزعون بين أصحاب (بشرة سوداء/ عبيد) و (بشرة بيضاء/ تجار) لم يكونوا من الأوروبيين فحسب، فكما يحكي الجد (كامونقة) “هم أولاد عمم وقبعات أوروبية يقتنصون الأطفال الجوعى بغواية الفول الذي يسمونه في أماكن كثيرة فستق عبيد”. وهو الفستق الذي كان يستخدم حيلة لإيقاع كثيرين في العبودية، لذلك حرص هذا الجد على أن يزرعه كي يشبع الأولاد فلا يذهبون للعبودية. كثيرون هم المتورطون في شراء العبيد، حتى أولئك الذين يدعون حماية الناس من أن يباعوا رقيقا، فإنهم يشترون عباد الله أيضا. في هذا المناخ، وضمن الثنائية الآنفة الذكر يتخلق منطق الصراع بين طرفين في إطار صور نفعية نرقب معها التحضر وقد انقلب همجية، والتقدم وقد بلغ حافة البربرية. وهو انقلاب تحركه رغبة جامحة في التوسع لا تتحقق إلا بوجود آخرين لا بد من تهميشهم وإبادتهم، وتدميرهم بدم بارد، لأن الطرف الأقوى وبكل بساطة يؤمن أنه الأسمى والأرفع، ولا خيار للأدنى سوى العمل وفقا لتوقعات الأسمى الذي يرى في السود مجرد بهائم هائمة أو سباع هائجة، أو مخلوقات في مرتبة بين البشر والحيوانات، فاستحقوا بذلك الخطف والنساخة والتجارة، بما يعني أن التعامل معهم يتم من منظور التشييء والتسليع. والرواية إذ تفسح المجال واسعا للجد (كامونقة) كي يحكي قصة استرقاقه ومن ثم انعتاقه، فإنها تضع يدها على أنساق ثقافية ظالمة عاشها الجد (كامونقة) في موطنه دارفور، وفيها نقع على مشاهد تكشف بشرا يتعاملون فيما بينهم بتراتبية قاهرة، تؤمن – على سبيل المثال- أن من بينهم من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، ومن بينهم أيضا من ترافقه رائحة الجنة أينما سار، والأمر يبدو أكثر استهجانا أثناء الاصطفاف للصلاة، إذ كان على العبيد أن يتراجعوا للخلف. ومن هذا المنطلق التراتبي أوكلت للجد (كامونقة) أثناء انخراطه في الجندية صغائر الأعمال، من مثل تنظيف القبة ومسح الأغبرة، وكان يأتمر بأمر كل من يأمر، ولا سيد محدد له يعرفه.
تشاء الصدفة أن تقع (رحمة) حفيدة (كامونقة) في حبال الشبكة التي يصطاد بها البشر كما الحيوانات، ليأتي دورها تباعا بعد جدها كي تحكي لنا كيف بيعت لتاجر العبيد الجزائري، الذي أوشكت أن تشفق عليه حين ظنته يعاني مرضا خطف لون بشرته، وتروي بكثير من الأسى كيف يحشر العبيد في السفينة في زاوية مكتظة بالأغنام التي تماعي في طريقها للمذبح في جو تملؤه القاذورات والحشرات والفئران والروائح الكريهة. ومن على السفينة التي تتصادف رحلتها مع إعلان نذر الحرب الكونية الثانية 1939، تصف لنا (رحمة) كيف كانوا يخرجون كل جسد أسود يداهمه المرض ويلقون به إلى فم البحر الذي يبتلعه بشهية.
وقالت إن الرواية تفتح الباب على مصراعية لفضح آليات الهيمنة التي يركن إليها الطرف المهيمن، وتفتحه بالمثل أيضا لإظهار آليات دفاعية متتالية يركن إليها الطرف المهيمن عليه، فهناك على مدار الرواية جملة من المعاني والقيم والممارسات والعلاقات التي تتخلق باستمرار مشكلة جملة من عناصر معارضة للهيمنة أو بديلا عنها. أولى هذه الممارسات كانت مع الجد (كامونقة)، الذي ابتدت الحكاية معه، حين يتوه ويضيع، ومن ثم يساق إلى زريبة تاجر العبيد، ليصبح بضاعة يعرضها النخاس على منصة، فبات فعل الالتحاق بالعسكرية هدفا يسعى إليه لغرض تحقيق الانعتاق، وهو ما نجح فيه حين أصبح مجاهدا في ثورة المهدي، ليتحول اسمه من بعدها إلى (معتوق).
الغد