اقتصادمسؤولية اجتماعية

قضاء ‘‘مريغة‘‘: تضاعف نسب الفقر بعد أكثر من عقد في مكافحته

شارك هذا الموضوع:

هاشتاق عربي

على الطريق الصحراوي جنوبا، وبعد أن تتجاوز تقاطع معان بحوالي 25 كلم، تقع بلدة “مريغة” التي تعد مركزا إداريا لقضاء يحمل الاسم ذاته (قضاء مريغة)، ويضم عددا من القرى الأصغر المتقاربة من بعضها هي: الفيصلية، أبو اللسن، النقب، الحيّاض، طاسان، القاسمية، سويمرة، وقرين، إضافة إلى تجمعين للبدو من سكان بيوت الشعر يبتعدان عن مركز القضاء.
العمران والاستقرار في المنطقة حديثان نسبيا، فبلدة “مريغة” ذاتها يعود تأسيسها إلى عقد الثمانينيات، بينما بدأ الاستقرار في قريتي “قرين” و”النقب” منذ ستينيات القرن العشرين؛ حيث تشكلت أنوية مستقرة ضمن مشاريع توطين البدو، لكن “مريغة” تحولت إلى مركز لهذه القرى، بسبب قربها من الطريق العام، ما جعلها أكثر جذبا للبناء والسكن لأبناء مختلف العشائر التي تقيم في تلك القرى. وكما هي الحال في مثل هذه المواقع، فإن القرى الحالية كانت في الأصل “مردّا” (منطقة يردّون أي يعودون إليها) لعشائر بعينها، وغالبا ما كانت تحمل الاسم ذاته حتى قبل الاستقرار، وتحتفظ كل قرية بتاريخ شفوي يتيح لها امتلاك شخصية محلية خاصة.

ملامح من السيرة التنموية للمنطقة

إلى زمن قريب (الثمانينيات من القرن العشرين) كان عمل السكان الرئيسي في تربية الحلال (المواشي) والزراعة، وكانت الأسر تبني أحيانا سكنا صغيرا في القرى، لتنظيم التحاق الأولاد بالمدارس والاستفادة من بعض الخدمات الأخرى كالصحة مثلا، ولكن سنوات المحل المتتالية دفعت السكان للتخلي عن نمطهم السابق، والسعي نحو الاستقرار النهائي، وبدأت عمليات مغادرة جماعية لطرق العيش البدوية- الفلاحية، عبر عمليات بيع متتالية ومتدرجة للملكيات من الحَلال، وشهد عقد التسعينيات انهيارا لهذا النمط الانتاجي المتوارث.
يربط السكان مظاهر الفقر بعقد التسعينيات بالتحديد، فقد دُفعت الأسر نحو بيئة جديدة وأنماط تحصيل رزق غير معتادة، ولا يملك السكان خبرات كافية فيها. وقد حصل الانتقال بالتدريج ولكن بتسارع، مع أن قسما منهم ما يزال “صامدا” في صنعة الحلال، وبعضهم حاول العودة أو المزاوجة بين النمطين الجديد والقديم. غير أن ما هو محسوم هو الاحترام الشديد لـ “أيام الحلال”، ولعموم النمط السابق، فهو في ذاكرتهم النمط الذي كان يمكنهم من تحقيق ذواتهم، كأفراد وأسر وكمجموعات، في علاقاتهم بالمحيط.
وحول بلدة مريغة ذاتها، نمى سوقها الشهير الذي أنشئ بمبادرة أهلية في العام 1987 كسوق لتبادل الحلال، ثم أخذت باقي السلع تدخل إليه، وقد أصبح أحد أهم أسواق المنطقة، ويرتاده الناس من جميع القرى والتجمعات السكانية القريبة، وذلك قبل أن تمتد إليه يد المشاريع التنموية فتحطمه.
يبلغ عدد سكان القضاء، وفق أرقام رسمية غير موثقة، أكثر من 8 آلاف نسمة، نصفهم يقيم في قرية مريغة مركز القضاء. ويتوزع العاملون من أبناء قضاء المريغة على قطاعات مختلفة: حكومية (مدني وعسكري) وبعض النشاطات التجارية في المنطقة، إضافة إلى العمل في المشاريع والشركات القائمة في منطقة البادية الجنوبية عموما، ولكنهم في الغالب يحتلون مواقع وظيفية متدنية في هذه المشاريع.
تأخر التعليم بشتى مراحله في منطقة مريغة بشكل ملحوظ مقارنة بباقي المناطق، فقد تخرج أول أبنائها من الجامعة العام 1979 وهو من قرية “قرين”. لكن المنطقة الآن مخدومة في مجال التعليم، وتتوفر في قراها المدارس، رغم أن تباعد دور السكن وانتشارها على مساحات كبيرة، يُصعّب وصول الطلاب لتلك المدارس، لكن بصورة عامة لا يشكو السكان من انعدام خدمة التعليم. وهو متوفر، وهناك مدرسة كبيرة تابعة للثقافة العسكرية، ووفرت جامعة الحسين في معان الفرصة أمام عدد كبير نسبياً من أبناء وبنات القضاء لتحصيل الدراسة الجامعية.
الخدمة الصحية متوفرة ولكن غير كافية، إذ يوجد مركز صحي أولي يداوم عددا محدودا من الساعات. وهذا يعني توقف الخدمة الصحية بعد انتهاء الدوام الرسمي، ويضطر السكان للذهاب إلى معان (25 كلم) أو إلى وادي موسى (40 كلم) أو إلى العقبة أحيانا التي تبعد حوالي 90 كلم.

العلاقة مع معان

إداريا يتبع قضاء المريغة لمحافظة معان، ولكن العلاقات الاعتيادية التقليدية تعود إلى ما قبل التقسيمات الإدارية بكثير، فمعان مدينة تجارية تعيش على قطاعي النقل والتجارة. كان طلب معان على منتجات البدو عاليا، مثلما كان طلب البدو على سلع سوق معان عاليا. ورغم استقرار البدو في قراهم، وتوقفهم عن الانتاج المخصص للتبادل، فقد ظلت معان مركزا لكل أبناء المحافظة، وخاصة من البدو، الذين وفرت لهم معان سوقا باسمهم “سوق البدو” يقدم السلع الخاصة التي يحتاجونها، وهو يعد السوق التقليدي في معان.
ومن الواضح أن مشكلة الجامعة (المشاجرة بين البدو وأهل معان العام 2012) أحدثت شرخا، وهو ما أثر على كليهما، فقد تقلص دور سوق البدو إلى درجة كبيرة وأغلقت العديد من محلاته، وتوقف البدو عن ارتياد المدينة بالشكل المعتاد، وبدأ السكان يتوجهون إلى وادي موسى كبديل.
مع ذلك، فإن جميع من التقيناهم في مريغة وقراها، يعتقدون ان المشاجرة عمل خاطئ وأن العلاقة مع معان وأهلها لا فكاك منها للطرفين، وهنا أيضاً كما في معان، لا أحد يستوعب دوافع المشاجرة الحقيقية، وهي بالنسبة لهم حادث غامض.

سوق المريغة الشعبي

تأسس السوق أصلاً العام 1987 بمبادرة من الأهالي، وأصبح عاملا مؤثرا في نمو قرية المريغة كمركز، وكان موقعه في ساحة خالية من البناء على طرف القرية مجاورة للطريق الدولي. وقد أنشئ في الأصل كـ”سوق حلال”، ثم بدأت السلع الأخرى تدخل إليه، كالملابس والأحذية.
في العام 2004 تم نقل السوق إلى موقع جديد يبعد حوالي كيلومترين عن القرية، وقد أقيم بتمويل من وزارة التخطيط. وتم فيه بناء عدد من المخازن والمظلات الخرسانية التي يفترض أن تستخدم كمظلة لبسطات الخضار.
سوق المريغة الحالي في الأوراق الرسمية يوصف كما يلي: “تم افتتاحه بتاريخ 2004/4/7، وتبلغ مساحته دونمين ومائتي متر مربع، وتم تمويله عن طريق وزارة التخطيط، حيث بلغت تكلفة البناء 140 ألف دينار ويحتوي السوق على مستودعات وعددها 12 مجهزة، وعلى بسطات خارجية لبيع الخضار والفواكه، ومحلات تجارية لبيع الأغنام، بالإضافة إلى وجود مكتب لمراقب السوق والحراس ومصلى وحمامات داخل السوق ويرتاده المواطنون والتجار من داخل وخارج القضاء بواقع يومين في الأسبوع، وهما يوم الاثنين، ويوم الخميس، مما يؤدي إلى زيادة الحركة التجارية في المنطقة”.
لكن واقع الحال أن المحلات التي بنيت في السوق لم يستغلها أحد من الباعة، وهي مغلقة بالكامل، وحتى المظلات الخرسانية لا تستعمل لأنها تعيق الحركة، فهي غير مناسبة من حيث التصميم. بهذا المعنى فإن السوق فشل في أداء المهمة، ولم يشكل بديلا مناسبا للسوق القديم.
مع هذا فمحاولات استغلاله من قبل السكان لم تتوقف، ففيه ساحة مخصصة لعرض الحلال، يحضر إليها الباعة والمشترون من مختلف المناطق، يجري فيها تبادل الماعز والخراف بأعداد محدودة. الى جانبها ساحة للتبسيط بالخضار والفواكه، ثم منطقة للأحذية والملابس، بعضها مستعمل (بالة) وبعضها جديد من صنف متواضع. والباعة والمتسوقون يحضرون من مختلف قرى قضاء المريغة وقضاء ايل، وبعض القرى القريبة الأخرى، كالحسينية والقويرة.
هناك أسواق في قرى أخرى بحيث يتمكن الباعة من التنقل ببضائعهم بينها: سوق مريغة يعمل يومي الاثنين والخميس. وسوق الحسينية يعمل الثلاثاء والسبت، وسوق قويرة يعمل الأحد والأربعاء. والمحتويات في الأسواق هي ذاتها: الحلال والملابس والأحذية والخضار والفواكه، ويتنقل البائعون بين هذه الأسواق.
جاء قرار نقل السوق بمبررات “الوجه الحضاري” المعتادة؛ حيث لا يجوز أن يكون مثل هذا السوق على مرآى المارين بالطريق الصحراوي الدولي. لكن السوق في وضعه الأول (المبادرة الشعبية منذ 1987 – 2004)، كان أفضل، من حيث حجم التردد عليه والاستفادة منه، غير أنه كان عشوائيا، ولكنه مع ذلك اشتهر في كل المنطقة.
السوق الحالي بعيد نسبياً عن السكان، وهو ما يصعّب زيارته ويزيد التكلفة بالنسبة للأهالي، وخاصة لمن لا يملك سيارة تنقله من وإلى السوق. ذلك أن الوصول اليه او مغادرته مشياً على الأقدام صعب، وبالتالي حُرم المتسوقون لاحتياجات اليوم الواحد، وخاصة النساء، من الاستفادة منه. وبالمحصلة، ووفق موقف الأهالي، فإن خطوة نقل السوق لم تكن موفقة.

الفقر ومكافحته في مريغة

دخلت المريغة ضمن قائمة جيوب الفقر منذ أول إحصاء لهذه الجيوب (2004)، واستمرت في باقي القوائم في الإحصاءات اللاحقة، وتنافس على مراتب متقدمة، وبنسبة فقر بدأت بـ 27 % لتصل إلى 51 % في آخر إحصاء صدر العام 2012.
الملاحظ أن الأرقام الخاصة بقضاء مريغة الواردة في دراسات تقييم الفقر، وهي الوثائق الرسمية الرئيسية المعتمدة في هذا المجال، جاءت متضاربة ومعروضة بطريقة غير مدروسة، سواء فيما يتعلق بنسب الفقر أو بعدد السكان، ففي إحداها يرتفع عدد السكان بمقدار فرد واحد!! خلال سنتين بينما تزيد نسبة الفقر أكثر من 10 % خلال الفترة ذاتها!
على العموم قامت وزارة التخطيط وهي الجهة المسؤولة الأولى عن خطط مكافحة الفقر بدراسة عن مريغة تعود إلى العام 2005 وبناء عليها أجريت بعض التدخلات التنموية.
وكالعادة، فإن التدخلات التنموية تديرها وتشرف عليها وزارة التخطيط، ولكنها تحال كعطاءات على أربع منظمات مركزية كبرى شهيرة في العاصمة.
يسيطر الجانب الشكلي على مجمل العملية، حيث تتقدم جهة محلية ما للحصول على منحة لمشروع، وإذا حققت الشروط تنال المنحة، وتكتب تقارير عن حجم العمالة وعدد المتدربين والمستفيدين، وتضاف الأرقام إلى الجداول الرسمية التي تعامل كإنجازات متحققة، ولكن واقع الأمر يختلف عما يكتب في التقارير.
على سبيل المثال: مولت وزارة التخطيط مخبزا مقترحا من قبل جمعية تعاونية في مريغة. المشروع شكليا ما يزال قائما و”ناجحا”، لكنه في الواقع جرى “تضمينه” لشخص من خارج المنطقة يقوم باستخدام عدد من العاملين الوافدين، وتستفيد الجمعية مبلغ “الضمان” المتفق عليه.
المخبز كان في البداية، ووفق الأوراق المعتمدة، يوظف 8 أشخاص من أبناء القرية. وتم تضمينه لمستثمر مقابل 350 دينارا شهرياً تُدفع منها 200 دينار أجرة محل، وتستفيد الجمعية مبلغ 150 دينارا شهرياً. المتضمن من القويرة والعمال وافدون.
لكن حال هذا المشروع أفضل من غيره للجمعية ذاتها، فقد موّل مشروع آخر يهدف إلى زيادة عدد أعضاء الجميعة من الفقراء، عن طريق تسديد الجهة الممولة لأقساط 220 عضوا بحيث يصبحوا مساهمين فيها، لكن ما جرى أن الأعضاء انتسبوا ولكن الأقساط لم تدفع إلى بنسبة الربع. وبالنتيجة الآن، توجد جمعية مكونة من 455 عضوا منهم 220 غير مسددين.
مثال آخر: مول مشروع صالة رياضية تابعة لنادي شباب مريغة. عند زيارة النادي والصالة، سوف يرى الزائر مشهدا غريبا: صالة صغيرة مكتظة بالتجهيزات الرياضية الحديثة، بحيث لا تتوفر امكانية استخدامها إلا من عدد محدود عليهم الالتزام بأماكنهم، فلا مجال للحركة لأن الأجهزة متلاصقة تقريباً!
مثال رابع: مول مشروع محطة تحلية مياه تبيع قوارير الماء للمواطنين، المحطة قائمة ويعمل بها أحد الشباب، وهي تدر دخلاً للجمعية إضافة إلى تأمين راتب العامل. لكن المحطة أثقلت بشراء مواد بكميات هائلة مقارنة مع حاجتها، وقد ألزمت المحطة بشراء تلك الكميات التي أتلفت على حسابها.
أحد العاملين في الجمعية يقول: لا أحد يستشيرنا عند تنفيذ المشاريع، فإما أن يتم الاعتماد على وسيط وحيد عادة ما يقدم رأياً متحيزاً لنفسه أو لأقاربه، أو أن يكون التخطيط مركزياً بالكامل، مما ينتج عنه قرار خاطئ في بعض الحالات.
هناك أموال أنفقت في المنطقة ولكن بلا فائدة، يتم الاعتماد على بعض العلاقات المرتجلة في تحديد أوجه الإنفاق، ويكون التركيز أن يجري تنفيذ المشروع دون النظر إلى النتائج. العطاءات التي تحال تكون بأسعار عالية مقارنة بما هو دارج في أسعار المنطقة، بحيث أن المبالغ المخصصة يذهب جزء كبير منها لمصلحة المتعهد والمقاول.

صندوق المعونة

افتتح فرع صندوق المعونة في معان العام 1986 أي سنة تأسيسه، وكان مكتب معان يخدم المنطقة كاملة، ولم تكن هناك حاجة لفتح مكاتب فرعية في باقي المناطق إلا مع مطلع القرن الجديد، فمع تردي الوضع الاقتصادي للسكان، نشأت ظاهرة التوجه إلى المعونة الوطنية على مستوى القرى، والآن يتواجد مكاتب فرعية في أكثر من قضاء ويوجد أحدها في مريغة منذ عام 2007.
لغاية تسعينيات القرن الماضي، لم يكن الناس قد “تطبّعوا” مع مظاهر الفقر ومسلكياته، فعلى سبيل المثال، ووفق رواية محدثينا، كانت سيارة لحوم الأضاحي (التي تحضر كتبرعات للمحتاجين) تدخل قرى المريغة وترجو الناس أن يأخذوا الذبائح، وكان عدد مَن يأخذون منها قليلاً، لأن ذلك كان يعتبر أمراً مخجلاً ومرفوضاً. واليوم تغير الموقف كلياً، فهناك صراع على المعونات النقدية وعلى طرود المعونات الغذائية.
إن عبارة “فلان يأخذ معونة من الشؤون” أصبحت عادية ولم تعد عيباً. وتسود فكرة أن: “مال الدولة حلال”. بل إن موظفين او أصحاب دخل، صاروا يتقدمون لطلب معونة لأن رواتبهم محجوزة للأقساط والبنوك.
وفق موظفي مكتب تنمية المجتمع المحلي في مريغة، فإن هناك اليوم خشية من تكاثر عدد الأسر الفقيرة الشابة، في السابق كانت الأسر الفقيرة من كبار السن أو من الأرامل، اليوم يحضر شباب متزوجون حديثاً ويطلبون المعونة.

دور للمرأة، ولكن وفق مواصفات الثقافة المحلية

على أي تفكير تنموي أن يأخذ بالاعتبار الدور المتنامي للنساء في قيادة الأسر وحمايتها من الإفقار، ولكن من الضروري أن لا يوضع ذلك في سياق الشعارات الحالية حول “تمكين” النساء أو تبديل مركزهن في الأسرة أو علاقتهن مع الأزواج أو الآباء أو الأسرة عموماً. لا تملك المجتمعات المحلية ترف تشكيل قناعات جديدة، أو تحمل إقحام هذه المجتمعات بمنظومة أفكار من خارجها تماماً. لاحظوا أن المجتمع ذاته طوّر شرطاً لمصلحة النساء قد يكون من الصعب تخيله بالنسبة لأصحاب الفكر النسوي عموماً، وهو ما يتعلق بإضافة شرط حق البنت بالعمل بشهادتها، بمعنى أنه لا يجوز للزوج حرمان زوجته الجامعية من العمل، إن الرجال الذين قابلتهم في القرية يتحدثون عن الأمر باعتزاز.
إن قبول المجتمع المحلي بأن تتوجه الفتاة إلى العمل بأجر يعد تحولاً كبيراً، ذلك أن العمل بأجر والذي يسمى في هذه المناطق “شغل بالفاعل” كان في الأصل يعد أمراً غير مقبول حتى بالنسبة للرجال، ولكن الناس استطاعوا تغيير موقفهم، وهذا أمر في غاية الأهمية وخاصة في سياق الرد على الأفكار التقليدية التي تقول إن السكان في هذه المناطق يعانون من ثقافة العيب، هذه الفكرة ينبغي التخلي عنها نهائياً، ليس في هذه المنطقة فقط، بل في أغلب المناطق المماثلة في الأرياف والبادية ومناطق الفقر الشديد.
الآن، ويومياً تتحرك من مريغة عدة باصات تحمل سيدات للعمل في المزارع المحيطة، وهي مزارع خضار: بندورة وخيار. بعضهن خريجات جامعيات، وتعتبر ظاهرة عمل السيدات في المشاريع من الظواهر الجديدة التي تعكس تبدلاً في الموقف من العمل.
في البلدة جمعية تحمل اسم “جمعية سيدات مريغة”. تأسست عام 2004، وتقوم بنشاطات اعتيادية منها عقد دورات تدريبية لبعض الأعمال البيتية، لكن العمل الأبرز والأهم تنموياً الذي تقوم به الجمعية هو تنظيم دورات محو أمية للسيدات. وتعطي الدورات معلمة تحمل شهادة دبلوم منذ 5 سنوات بالتنسيق مع وزارة التربية.
عند الزيارة وإجراء المقابلة كانت الجمعية تعقد دورة لمحو الأمية تشترك بها 9 سيدات من نساء المنطقة أقلهن عمرها 39 سنة. وقد سمحن لي بالدخول وأجريت معهن لقاء جماعياً مفتوحاً وصريحاً شاركن به جميعهن وأجبن على أسئلتي بلا تردد، وتقدم الدراسة على فصلين دراسيين يجري فيهما تعليم القراءة والكتابة.
النساء صابرات ومكافحات، ويقمن بدور كبير في إدارة الأسرة وتحقيق دخلها. منهن من أنشأت عملاً بيتياً مثل بيع الملابس (الجديدة والبالة). او امتلكن ماكنة خياطة للأسرة أو بالأجرة لطالبات الخدمة. منهن يعملن في المشاريع في مواقع بعيدة عن سكنهن. وحتى معلمة محو الأمية ذاتها تقوم ببيع البضائع في بيتها. وفي إحدى السنوات عملت بعض سيدات المنطقة بتنظيم من الجمعية، على تلبية حاجة مديرية الدفاع المدني من الشماغات المهدبة لفترة محدودة، مقابل أجر. وتوفر الجميعة قروضا دوّارة بمبلغ 500 دينار للسيدات.

خلاصات وملاحظات استنتاجية:

• هناك خلل في تصورات المركز الحكومي عن مشكلات التنمية في المنطقة، ويعود ذلك إلى أسلوب تشكيل تلك التصورات، حيث لا يتوفر التماس المباشر مع السكان في المستويات الدنيا.
• من الأخطاء الرئيسية للسلطة المركزية (الحكومة)؛ الاعتماد على شخصيات محددة في تنظيم العلاقة مع سكان المنطقة، وهؤلاء تخلوا عن مهمتهم في استشارة السكان قبل التقاء المسؤولين.
• فيما يتصل بنمط العمل الأساسي (الحلال والزراعة)، يتعين إيجاد طريقة للإبقاء على هذين القطاعين وتدعيم كل من يحاول مواصلة العمل فيهما، وللأمر أبعاد اقتصادية تنموية وأخرى اجتماعية تمس علاقتهم بالمنطقة وبالبلد. إذ من الملاحظ أن الناس ما يزالون يزرعون أرضهم، وهي عبارة عن قطع صغيرة أو متوسطة الحجم، تتوسط المناطق الوعرة غير القابلة للزراعة، وهم يزرعون القمح والشعير لغايات المونة والعلف. وهناك نظام الضمان للأرض او حتى عن طريق زراعة الأرض التي يغيب أصحابها. إلى جانب هذا، هناك فئة ما تزال حريصة على تربية الحلال ولو بعدد محدود.
• بالاتصال مع النقطة السابقة، توجد في المنطقة وعلى أراضيها محطتان زراعيتان: نباتية وحيوانية، أقيمتا منذ مطلع السبعينيات، وتقع المحطة النباتية في قرية “وهيدة” المجاورة تماماً لمريغة، ويعمل بها حوالي 70 موظفا وتقوم على مساحة واسعة، تقدم الأشتال (زيتون وعنب وخلافه) وبعض الخدمات الزراعية. هناك بيت زجاجي حديث للتشتيل عمل لمدة عام واحد ثم توقف، ويرى العاملون أن هناك امكانية لاستثمار هذه المحطة بحكم خبرتها.
• لا بديل عن إعادة التفكير بعلاقة السكان مع ثروات مناطقهم، وهو أمر له أبعاد تتجاوز الاقتصادية والتنموية الاجتماعية لتصل إلى الأبعاد الأمنية. على المدى المتوسط والبعيد يتعين الانتهاء من حالة أن سكان هذه المناطق لا يصلحون إلا للأعمال الدنيا في هذه المشاريع. فالجيل الجديد دخل قطاعات العمل الجديدة، إن جميع من قابلتهم كانت له محاولات في البحث عن عمل في المنشآت والمشاريع القريبة.
• تتحول المخدرات إلى مشكلة تؤرق الأهالي على مصير أبنائهم، وهذا حاصل على عموم المنطقة.
• المشكلة مع معان تؤثر بشكل كبير على حياة السكان وهي حاضرة بقوة. ولكن يمكن بسهولة ملاحظة أن الأهالي في الطرفين يشعرون بأن الأمر طارئ ويرغبون بإنهائه، وهم يدركون نوع العلاقة التي تشكلت عبر الزمن وأهميتها لمدينة معان كما للبادية.
• هناك إقبال على التعليم عموماً، والتعليم الجامعي بشكل كبير، ولهذا يتعين الانتباه إلى تداعيات أي خطوة في السياسات التربوية على هذه المنطقة، فالأمر له حساسية بالغة.

-(الغد)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى