الشرق الأوسط اليوم أمام منعطف حاسم. يبلغ عدد سكان المنطقة أكثر من 270 مليون نسمة، نصفهم تقريباً من الشباب دون سن الثلاثين. ومع ذلك، تواجه المنطقة فجوة متنامية في الوظائف قد تحدد مسارها الاقتصادي لعقود مقبلة.
رغم التحديات، لا تغيب الفرص. فجيل الشباب يمتلك قدرات هائلة وإمكانات واعدة. وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية من عملي في المنطقة، لمست هذا الإمكان الواعد عن قرب و شاهدت كيف يمكن لوظيفة واحدة أن تغيّر حياة إنسان تغييرًا جذريًا ويساهم أثرها في تغيير مستقبل أسرة كاملة.
وعلى مستوى أوسع، ينعكس الأثر على المجتمع ككل: فالوظائف النوعية تفتح آفاقًا جديدة أمام النساء، وتدعم اندماج الفئات الأكثر هشاشة، وتقوي النسيج الاجتماعي الذي يقوم عليه الازدهار المشترك والمستدام. لهذا فإن فهم تحديات الوظائف والتصدي لها أمر ملح، ليس فقط لمعالجة ما نفتقده اليوم، بل أيضًا لبلوغ ما نستطيع تحقيقه غدًا.فَهْمُ التحديات الوظيفية في الشرق الأوسط
خلال العقد القادم، سينضم نحو ستة وثلاثين مليون شخص إلى سوق العمل في الشرق الأوسط، بحثًا عن فرص لبناء حياة أفضل، وذلك وفق تقديرات فريق مؤسسة التمويل الدولية استنادًا إلى بيانات إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للأمم المتحدة والبنك الدولي لعام 2024.
ولاستيعاب هذا التدفق، ستحتاج المنطقة إلى توفير 18 مليون وظيفة جديدة خلال السنوات العشر المقبلة. لكن إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فلن يتمكن سوى نصفهم من الحصول على فرص عمل. ومن دون مسارات واضحة للعمل، سيجد الكثيرون أنفسهم في مواجهة البطالة، ليتفاقم الفقر، وتتسع فجوات عدم المساواة، ويزداد عدم الاستقرار.
ويزداد إلحاح هذا التحدي مع استمرار معاناة العديد من بلدان الشرق الأوسط من الهشاشة والصراعات، وهو ما يقوّض الفرص الاقتصادية ويترك ملايين الأشخاص عرضة للمخاطر. وتزداد الأزمة حدة بفعل مشاكلهيكلية مزمنة، من بينها الاعتماد المفرط على الوظائف الحكومية، وضعف نمو القطاع الخاص، والفجوات الكبيرة في أنظمة التعليم. كما يضاعف عدم الاستقرار السياسي والركود الاقتصادي من صعوبة الجهود المبذولة لخلق فرص عمل.
تبلغ نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل في الشرق الأوسط 19% فقط، وهي من بين أدنى المعدلات عالميًا، حيث تبقى 68 مليون امرأة خارج سوق العمل، وفقًا لبيانات منظمة العمل الدولية. كما تظل محدودية الوصول إلى الخدمات المالية عائقًا كبيرًا أمام الكثيرين، ففي دول مثل اليمن والعراق لا تتجاوز نسبة السكان الذين يمكنهم استخدام الخدمات المالية الرسمية 12% في اليمن و19% في العراق.
إن هيمنة الاقتصاد غير الرسمي في بعض الدول تفوق تلك التحديات، حيث يشكّل العمل غير الرسمي 68% من الوظائف في العراق و55% في كل من لبنان والأردن. والتصدي لهذه العقبات يتطلّب استجابة منسّقة بين القطاعين العام والخاص. فرغم أهمية استثمارات القطاع العام، يبقى القطاع الخاص هو المحرّك الرئيس للنمو ومصدر لغالبية توفر فرص العمل.
استراتيجية مجموعة البنك الدولي
تدرك مجموعة البنك الدولي أن خلق المزيد من فرص العمل الجيدة ليس مجرد أولوية تنموية، بل هو عنصر أساسي للنمو والاستقرار العالمي. ولهذا السبب تُعدّ إتاحة فرص العمل أولوية المجموعة الأولى، وتلتزم المجموعة من خلال ذراعها للقطاع الخاص، مؤسسة التمويل الدولية، بتعبئة رأس المال الخاص للتصدي لتحدي الوظائف في المنطقة. وعلى نحو أكثر تحديدًا، تواجه مجموعة البنك الدولي هذا التحدي العالمي من خلال استراتيجية ثلاثية المحاور تجمع بين خبرات القطاعين العام والخاص.
نبدأ من الأساسيات: بناء ركائز لنمو شامل ومستدام. نستثمر في البنية التحتية والصحة والتعليم لتعزيز البيئة المواتية، وتنمية رأس المال البشري، وزيادة الإنتاجية. ففي العراق مثلًا، يساهم استثمار مؤسسة التمويل الدولية، بقيمة 125 مليون دولار،في توسيع ميناء أم قصر، أكبر وأعمق ميناء بحري في البلاد، بهدف تطوير البنية التحتية الحيوية، وتحسين الربط التجاري، وخلق وظائف مستدامة بفضل تدفق التجارة بكفاءة أكبر.
كما نهدف إلى تهيئة البيئة التي تحتاجها الشركات للنمو وخلق الوظائف. ومن خلال “ميثاق المعرفة” لمجموعة البنك الدولي نسعى إلى دعم شركائنا في القطاعين العام والخاص على معالجة التحديات الأكثر تعقيداً عبر حلول قائمة على الأدلة، وتمويل ذكي، وتكنولوجيا مبتكرة تشمل الذكاء الاصطناعي. والنتيجة هي حوكمة أفضل، وحواجز أقل أمام الحصول على الوظائف، ومزيد من الشمول المالي.
بالإضافة إلى ذلك، تحدّد “الدراسات التشخيصية للقطاع الخاص أو “Country Private Sector Diagnostic” القطاعات ذات الأولوية والإصلاحات العملية لدعم الرؤى التنموية للدول، مع إفساح المجال للقطاع الخاص لقيادة هذا المسار. وتتيح هذه المنتجات المعرفية الاستفادة من خبراتنا العالمية في تشخيص التحديات وتقديم الحلول. وقد أطلقنا أول دراسة تشخيصية للقطاع الخاص في الأردن عام 2021، ومن المقرر إصدار دراسة جديدة في وقت لاحق من هذا العام.
وأخيرًا، نقوم بتعبئة رأس المال الخاص لتوسيع نطاق خلق الوظائف. على سبيل المثال، في المملكة العربية السعودية، يساهم قرض بقيمة 240 مليون دولار لشركة “أكوا باور” في دعم توسّعها الإقليمي، وتعزيز الوصول إلى الطاقة، وزيادة تمثيل النساء في القوى العاملة. كما أن شراكتنا مع شركة “مصدر” الإماراتية تدفع قُدمًا حلول الطاقة النظيفة في أوزبكستان، بما يساعد على تعزيز الاعتماد على الطاقة المتجددة و يدعم أمن الطاقة.
وفي العراق والأردن ولبنان، يدعم مشروع “Scale Mashreq” ، المنفّذ بالشراكة مع المسرّعات والحاضنات الإقليمية مثل Flat6Labs وIraq Venture Partners، أكثر من 160 شركة ناشئة، مما ساعدها على النمو وخلق الوظائف.
أما في العراق، فإن استثمارنا البالغ 130 مليون دولار في شركة “الدوح للإسمنت” يوسّع الإنتاج باستخدام تكنولوجيا موفرة للطاقة، ومن المتوقع أن يخلق أكثر من 2,700 وظيفة. وفي الوقت نفسه، أسهمت شراكتنا الممتدة لأكثر من 40 عامًا مع شركة “مجموعة الحكمة – حكمة فارماسيوتيكلز بي. إل. سي”” الأردنية في تعزيز النظم الصحية، حيث توظف الشركة 5,800 شخص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
نحو مستقبل مزدهر
إن خلق الوظائف ليس مجرد ضرورة اقتصادية، بل هو أيضًا ضرورة اجتماعية وسياسية. كما أن نوعية الوظائف لا تقل أهمية عن عددها: من حيث تعزيز الإنتاجية، وإضفاء الطابع الرسمي على العمل، وتمكين النساء والشباب من التكيف مع الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر والتحول الرقمي
إن تحدي الوظائف في الشرق الأوسط أمر صعب، لكنه ليس مستحيلًا. وبالعمل العاجل والمدروس، يمكن للمنطقة إطلاق إمكاناتها الاقتصادية وخلق فرص لملايين المواهب.











