هاشتاق عربي – وصفي الصفدي
في خضم تدفق المعلومات اللامتناهي، لم يعد الخطر الأكبر يكمن في نقص المعرفة، بل في وفرة الخداع. الحملة الممنهجة التي شهدها الأردن مؤخراً، والتي استهدفت شخصيات نسائية بارزة بصور مفبركة ومحتوى مسيء، لم تكن مجرد جريمة إلكترونية عابرة، بل كانت جرس إنذار يكشف عن واقع جديد: حروب العصر الحديث تُخاض في الفضاء الرقمي، وسلاحها هو “المحتوى المزيف”، وهدفها هو “اغتيال الشخصية” وتقويض ثقة المجتمع بنفسه ومؤسساته.
في هذا المقال أقدم تحليلاً شاملاً لهذه الظاهرة، ويركز على أهمية تسليح المواطن والمؤسسات بالمعرفة والأدوات اللازمة للانتقال من موقع الضحية إلى خط الدفاع الأول، لبناء مناعة مجتمعية حقيقية في وجه هذا الوباء الرقمي.
تشريح الهجوم: كيف تعمل آلة التشهير الرقمي؟
لفهم كيفية الدفاع، يجب أولاً أن نفهم طبيعة الهجوم. حملات التشهير المنظمة ليست عشوائية، بل هي عمليات مدروسة تتبع خطوات محددة مثلها مثل العمليات العسكرية التكتيكية:
- تحديد الهدف: يتم اختيار شخصيات عامة أو مؤثرة لتحقيق أقصى قدر من التأثير والجدل.
- صناعة “السلاح”: يتم استخدام برامج تعديل الصور المتقدمة وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً “التزييف العميق” (Deepfake)، لإنشاء محتوى مزيف يصعب على العين غير المدربة تمييزه.
- النشر الممنهج: يُنشر المحتوى عبر شبكة من الحسابات الوهمية (الذباب الإلكتروني) لضمان انتشاره الأولي السريع.
- تضخيم الانتشار: تعتمد الحملة في هذه المرحلة على المستخدمين الحقيقيين الذين، بحسن نية أو بسوء نية، يقومون بإعادة نشر المحتوى، ليصبحوا جزءاً من سلسلة الهجوم دون أن يدروا.
الهدف النهائي ليس فقط الإضرار بالفرد المستهدف، بل تحقيق أهداف أوسع: زرع الشك، نشر الفتنة، وكسر الثقة بين المواطنين وقياداتهم ومؤسساتهم.
لغة الأرقام: وباء صامت بحجم عالمي
قد تبدو هذه الحملات كحوادث فردية، لكن الإحصاءات العالمية ترسم صورة مختلفة وأكثر قتامة:
- انتشار أسرع من الحقيقة: دراسة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) نُشرت في مجلة Science بيَّنت أن الأخبار الكاذبة تنتشر على تويتر أسرع بستة أضعاف من الأخبار الصحيحة. الأخبار المزيفة تصل إلى 1,500 مستخدم خلال 10 ساعات فقط، بينما تحتاج الحقائق إلى 60 ساعة للانتشار بنفس القدر [MIT Sloan].
- استهداف النساء: العنف الرقمي ضد المرأة ظاهرة عالمية واسعة الانتشار، حيث كشفت دراسة حديثة لوحدة “الإيكونوميست” أن ٨٥٪ من النساء حول العالم كنّ شاهدات على وقائع تحرش أو عنف عبر الإنترنت، بينما تعرضت ٤٠٪ منهن له بشكل شخصي. التأثير لم يقتصر على السمعة، بل وصل إلى تعطيل المشاركة الاقتصادية والسياسية [PRNewswire].
- بوابة للاختراق: لا يتوقف الخطر عند التشهير. فالروابط المرفقة بهذه المنشورات هي فخاخ تصيد (Phishing) مصممة لسرقة بياناتك. وتشير التقارير إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي هي البيئة الأكثر استهدافاً بهجمات التصيد الإلكتروني.
- خسائر نفسية واقتصادية: وفق تقارير الأمم المتحدة، 35% من النساء اللواتي تعرضن للعنف الرقمي عانين القلق والاكتئاب، فيما يؤدي انتشار هذه الظواهر إلى إضعاف الحياة العامة والديمقراطية، إضافة إلى خسائر اقتصادية نتيجة عزوف النساء عن المشاركة في سوق العمل [UN Women].
هذه الأرقام تُثبت أن الظاهرة ليست مجرد “إشاعات محلية”، بل وباء عالمي صامت يهدد المناعة الاجتماعية.
التثقيف المجتمعي: كيف يصبح خط الدفاع الأول؟
المواجهة تبدأ من عندك. تحويل كل مواطن إلى “مدقق حقائق” هو أقوى سلاح لكسر سلسلة انتشار التزييف. إليك أدواتك العملية:
أولاً: صندوق أدوات كشف التزييف
- للصور (لا تثق بمجرد النظر):
- البحث العكسي: قبل مشاركة أي صورة، استخدم Google Images أو TinEye. ارفع الصورة لترى إن كانت قديمة أو مستخدمة في سياق مختلف.
- الفحص البصري: دقق في التفاصيل. هل الظلال متناسقة؟ هل هناك حواف ضبابية حول الأشخاص؟ هل الخلفية تبدو مشوهة؟
- للفيديوهات (احذر من التزييف العميق):
- راقب العيون والوجه: هل حركة الرمش طبيعية؟ هل تعابير الوجه تتفاعل مع الكلام أم أنها جامدة؟
- طابق الصوت مع الشفاه: هل هناك تزامن دقيق بين الكلمات المنطوقة وحركة الفم؟
- ابحث عن التشوهات: غالباً ما تظهر عيوب بصرية دقيقة عند حواف الوجه أو في تفاصيل الشعر.
- للأخبار والنصوص (تحقق من المصدر):
ثانياً: القاعدة الذهبية للتصرف الفوري
عندما تواجه محتوى مسيئاً أو مشبوهاً، تصرفك الصحيح يتلخص في ثلاث خطوات حاسمة:
- لا تتفاعل أبداً: لا إعجاب، لا تعليق، وبالأخص لا للمشاركة. تفاعلك يغذي الخوارزميات ويزيد من انتشار الضرر. صمتك هنا هو أقوى موقف.
- بلّغ فوراً: استخدم خاصية “الإبلاغ” (Report) على المنصة للإبلاغ عن المحتوى. ثم أبلغ وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية في بلدك عبر قنواتها الرسمية.
- أحظر المصدر: قم بحظر الحسابات التي تنشر هذا المحتوى لتنظيف فضائك الرقمي وحماية نفسك من المزيد من الأذى.
ما وراء الشاشة: كيف تلاحق الدول الجناة؟
بينما يقوم المواطن بدوره في التوعية والحماية، تعمل الأجهزة الأمنية على جبهة أخرى أكثر تعقيداً لملاحقة مرتكبي هذه الجرائم. وتعتمد على منظومة متكاملة من التقنيات والأساليب:
- الاستخبارات مفتوحة المصدر (OSINT): يبدأ التحقيق غالباً بجمع المعلومات المتاحة للجميع على الإنترنت لرسم خريطة للشبكات الإجرامية وتحديد الحسابات الرئيسية.
- التحقيق الجنائي الرقمي (Digital Forensics): باستخدام برامج متخصصة مثل EnCase وFTK، يتم تحليل الأجهزة والخوادم المضبوطة لاستخراج أدلة رقمية دامغة.
- تتبع عنوان IP: عبر أوامر قضائية، تطلب الجهات الأمنية من شركات الإنترنت والتواصل الاجتماعي الكشف عن عناوين IP المرتبطة بالأنشطة الإجرامية، مما يساعد في تحديد الموقع الفعلي للمشتبه بهم.
- التعاون الدولي: بما أن هذه الجرائم عابرة للحدود، يصبح التعاون عبر قنوات مثل الإنتربول ضرورياً لملاحقة الجناة الذين يعملون من خارج البلاد.
نحو عقد اجتماعي رقمي جديد
إن المعركة ضد الاغتيال الرقمي للشخصية ليست مجرد معركة تقنية أو قانونية، بل هي معركة أخلاقية ومجتمعية بالدرجة الأولى. هي اختبار لمدى وعينا وقدرتنا على التمييز بين الحقيقة والزيف. إن بناء مجتمع رقمي آمن ومحصّن هو مسؤولية مشتركة تتطلب من كل فرد أن يكون حارساً على بوابات عقله، فلا يسمح بمرور الشائعات، وأن يكون مساهماً فاعلاً في نشر الوعي لا الخوف.
في هذا العصر، قد يكون العمل الوطني الأكثر تأثيراً ليس مشاركة شعار، بل هو التوقف عن مشاركة إشاعة. القاعدة بسيطة وواضحة: تحقق، بلّغ، واحْمِ نفسك ومجتمعك.










