الرئيسيةخاصشبكات اجتماعيةمقالات

السفاهة الرقمية وثقافة الترند

هاشتاق عربي – وصفي الصفدي

شهد العصر الرقمي تحولاً جذرياً في طريقة تواصلنا وتلقينا للمعلومات، فبينما فتح آفاقاً واسعة للمعرفة والاتصال، أفرز في المقابل تحديات غير مسبوقة، ولعل أبرزها تضخم ظاهرة السفاهة وبروزها بشكل لافت. لم تزد السفاهة كمفهوم أو سلوك إنساني بقدر ما تضخمت مساحتها للانتشار والظهور العلني، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من المشهد اليومي على المنصات الرقمية.

كيف تعاظمت السفاهة في العصر الرقمي؟

وفرت الأدوات والمنصات الرقمية للسفاهة قنوات غير مسبوقة للتمدد والظهور، محوِّلة ما كان يُعد سابقًا تصرفات فردية محدودة التأثير إلى ظواهر جماعية واسعة الانتشار. يمكن إرجاع هذا التضخم إلى عدة عوامل:
• الانتشار الواسع والسريع للمعلومات المضللة والشائعات: أصبحت القدرة على نشر المعلومات الكاذبة والشائعات أسهل وأسرع من أي وقت مضى. المحتوى السطحي وغير الموثوق به ينتشر كالنار في الهشيم، ويجد عقولًا قابلة للتصديق دون تمحيص أو تفكير نقدي. هذا يؤدي إلى تضليل الرأي العام، ونشر الخرافات، وتعزيز الأفكار غير المنطقية.
• غياب الرقابة والمسؤولية: توفر المنصات الرقمية شعورًا بالحرية المطلقة للكثيرين، مما يجعلهم يتصرفون ويدلون بآرائهم دون الشعور بالمسؤولية أو الخوف من العواقب. هذا الغياب للرقابة الذاتية يدفع البعض للتعبير عن أفكار أو آراء سخيفة أو مسيئة، معتقدين أنهم في مأمن من المحاسبة.
• ثقافة “التريند” والبحث عن الشهرة السريعة: تسعى الكثير من الحسابات والأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي إلى تحقيق الشهرة السريعة وجذب الانتباه بأي ثمن. هذا يدفع البعض لإنتاج محتوى تافه، أو القيام بتصرفات غير مسؤولة، أو نشر آراء غريبة وصادمة بهدف تصدر “التريند” والحصول على التفاعلات، حتى لو كان ذلك على حساب القيم أو المنطق.
• تأثير الفقاعة المعلوماتية (Filter Bubbles): تعمل خوارزميات المنصات الرقمية على عرض المحتوى الذي يتوافق مع اهتمامات المستخدمين وتفضيلاتهم. هذا يخلق ما يُعرف بـ “الفقاعة المعلوماتية”، حيث ينحصر المستخدم في رؤية آراء وأفكار معينة، مما يعزز قناعاته الموجودة، حتى لو كانت تلك القناعات مبنية على السفاهة أو الجهل. يصبح من الصعب عليه التعرض لوجهات نظر مختلفة أو التفكير النقدي.
• تآكل مهارات التفكير النقدي: مع سهولة الوصول إلى المعلومات الجاهزة والاعتماد على الملخصات السريعة، تضعف مهارات التفكير النقدي لدى الأفراد. يصبح الكثيرون غير قادرين على تحليل المعلومات، أو التمييز بين المصادر الموثوقة وغير الموثوقة، أو حتى تشكيل رأي مستقل بناءً على فهم عميق، مما يجعلهم عرضة بشكل أكبر لاستيعاب المحتوى السطحي والسفيه.
• التنميط والتسطيح في المحتوى: يهيمن المحتوى السريع والمختصر (مثل مقاطع الفيديو القصيرة والمنشورات المقتضبة) على الفضاء الرقمي. هذا يؤدي إلى تسطيح الأفكار وتعقيداتها، وتبسيط القضايا المعقدة إلى حد السخافة، مما يترك مساحة أكبر للمحتوى السطحي وغير العميق ليزدهر.
• التنمر والسخرية الإلكترونية: توفر البيئة الرقمية مساحة سهلة لـ التنمر والسخرية من الآخرين، سواء كان ذلك بسبب المظهر، أو الآراء، أو حتى الأخطاء البسيطة. هذا الشكل من السفاهة يبرز بوضوح في التعليقات والتفاعلات السلبية، ويشكل ضغطًا نفسيًا كبيرًا على الأفراد المستهدفين.

أهم المؤشرات السلبية لظاهرة السفاهة في العصر الرقمي

تتجلى تداعيات السفاهة الرقمية في مؤشرات سلبية متعددة تؤثر على الأفراد والمجتمعات:
• انتشار المعلومات المضللة وتآكل الثقة: يعد انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة أبرز مؤشرات السفاهة. يؤدي هذا إلى فقدان الثقة في المصادر الإخبارية الموثوقة، ويجعل من الصعب على الأفراد التمييز بين الحقيقة والزيف، مما يؤثر على اتخاذ القرارات على المستوى الشخصي والمجتمعي.
• تراجع جودة النقاش العام: تحولت العديد من المنصات الرقمية إلى ساحات للجدل العقيم والمهاترات بدلاً من النقاش البناء. تسيطر السخرية والتخوين والاتهامات الشخصية على الحوارات، مما يؤدي إلى تراجع جودة النقاش العام حول القضايا الهامة وعدم القدرة على التوصل إلى حلول أو تفاهمات.
• تسطيح الوعي والمعرفة: مع هيمنة المحتوى السطحي والموجه نحو الإثارة، يصبح الأفراد أقل اهتمامًا بالمحتوى العميق والمعرفي. هذا يؤدي إلى تسطيح الوعي العام، وغياب الفهم الحقيقي للقضايا المعقدة، والاعتماد على قشور المعلومات.
• تزايد ظواهر التنمر والكراهية: توفر البيئة الرقمية بيئة خصبة لانتشار التنمر اللفظي والسخرية والتعليقات المسيئة. يتجرأ البعض على إطلاق العنان لعدوانيتهم خلف شاشات الأجهزة، مما يؤدي إلى زيادة مستويات الكراهية والعدائية في المجتمع الرقمي، ويؤثر سلباً على الصحة النفسية للمتضررين.
• تأثير سلبي على الصحة النفسية: التعرض المستمر للمحتوى التافه، والمقارنات الاجتماعية غير الواقعية، والتنمر، يمكن أن يؤدي إلى مشكلات نفسية مثل القلق، والاكتئاب، وتدني احترام الذات، والشعور بالإحباط.
• تبديد الوقت والموارد: يقضي الكثير من الأفراد ساعات طويلة في استهلاك أو إنتاج محتوى تافه لا يقدم أي قيمة حقيقية. هذا يمثل إهدارًا للوقت والطاقة التي يمكن استغلالها في أنشطة أكثر فائدة وإنتاجية.
• تراجع قيمة الخبرة والتخصص: في العصر الرقمي، يمكن لأي شخص أن يصبح “خبيرًا” أو “مؤثرًا” دون امتلاك المعرفة أو المؤهلات اللازمة. هذا يؤدي إلى تراجع قيمة الخبرة الحقيقية والتخصص، حيث تُعطى الأهمية أحياناً لعدد المتابعين أكثر من جودة المحتوى.

مواجهة التحديات والحد من الانتشار السلبي

إن مواجهة تحديات السفاهة في العصر الرقمي تتطلب جهدًا متعدد الأوجه يشمل الأفراد، والمؤسسات، والحكومات. لا يمكن القضاء عليها تمامًا، ولكن يمكن الحد من انتشارها السلبي وتعزيز بيئة رقمية أكثر وعيًا ومسؤولية:

أولاً: دور مؤسسات المجتمع:

• المؤسسات التعليمية: يجب دمج التربية الإعلامية والرقمية في المناهج، وتعزيز مهارات التفكير النقدي والتحقق من المعلومات لدى الطلاب من المراحل المبكرة.
• المؤسسات الدينية والاجتماعية: التأكيد على أهمية الأخلاق والقيم في التعامل الرقمي، وتقديم القدوة الحسنة، وتوفير منصات للحوار الهادف.
• المؤسسات الإعلامية: تكثيف جهود التحقق من الحقائق (Fact-Checking)، وإنتاج محتوى إعلامي يتسم بالعمق والجودة، والتوعية بمخاطر المحتوى التافه.
• منظمات المجتمع المدني: إطلاق مبادرات توعوية حول المواطنة الرقمية، وتقديم الدعم النفسي للمتضررين، والتعاون مع شركات التكنولوجيا لتحسين آليات الإبلاغ.

ثانياً: دور التشريعات والقوانين:

لا يكتمل التصدي للسفاهة الرقمية دون وجود إطار قانوني رادع وواضح، وهنا تبرز أهمية التشريعات المتعلقة بالجرائم الإلكترونية:
• تجريم الأفعال الضارة: تساهم القوانين في تجريم الأفعال التي تندرج تحت مفهوم السفاهة وتتعدى على حقوق الآخرين، مثل التشهير، نشر الشائعات، التنمر الإلكتروني، والتحريض على الكراهية. هذا يوفر مظلة قانونية للمتضررين للجوء إليها، ويشكل رادعًا للمعتدين.
• حماية البيانات الشخصية والخصوصية: تضع التشريعات أطراً لحماية بيانات المستخدمين وخصوصيتهم من الانتهاك، وهو ما يحد من استغلال المعلومات الشخصية في أعمال مسيئة أو مضللة تندرج تحت السفاهة.
• تنظيم المحتوى والمساءلة: تساعد القوانين في وضع معايير لمسؤولية المنصات الرقمية عن المحتوى الذي يُنشر عليها، وتشجعها على تطبيق سياسات أكثر صرامة لمكافحة المحتوى الضار، مع الحفاظ على حرية التعبير المسؤولة.
• التعاون الدولي: تتجاوز الجرائم الإلكترونية الحدود الجغرافية، لذا فإن التعاون الدولي في سن وتطبيق القوانين يصبح أمراً حيوياً لملاحقة المتجاوزين وضمان عدم إفلاتهم من العقاب.
• التوعية القانونية: يجب أن تترافق التشريعات بحملات توعية مكثفة للمواطنين حول حقوقهم وواجباتهم القانونية في الفضاء الرقمي، وعواقب انتهاك هذه القوانين.

ثالثاً: دور الأفراد:

• التفكير النقدي والتحقق: لا تصدق كل ما تراه، تحقق من المصدر، وابحث عن أدلة قبل التصديق أو المشاركة.

• المسؤولية في النشر والمشاركة: فكر قبل أن تنشر، وتجنب مشاركة المحتوى التافه أو المضلل، وبلغ عن المحتوى الضار.
• تعزيز المحتوى الهادف: ادعم المحتوى الجيد والمفيد، وكن أنت مؤثرًا إيجابيًا، وشارك في النقاشات البناءة.
• التوعية الذاتية والمستمرة: تعلم مهارات الإعلام الرقمي، واقرأ الكتب والمقالات المتخصصة، وراقب استخدامك للإنترنت.

الخلاصة

في الختام، إن العصر الرقمي سيف ذو حدين، فكما يحمل في طياته إمكانيات هائلة للتقدم، فإنه يحمل أيضاً مخاطر جمة إذا لم نتعامل مع أدواته بوعي ومسؤولية. إن الحد من انتشار السفاهة هو معركة فكرية وثقافية وقانونية تتطلب تضافر جهود الجميع لخلق بيئة رقمية أكثر صحة وإنتاجية، تمكننا من الاستفادة من إيجابيات التكنولوجيا وتجنب سلبياتها.

وصفي الصفدي

خبير في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، بخبرة تزيد عن عشرين عاما، وكان قد عمل في العديد من كبريات الشركات في الأردن والمنطقة العربية التي تعمل في هذا القطاع، في مناصب قيادية، مثل رئيس تنفيذي، ومدير عام، ونائب رئيس تنفيذي، ونائب الرئيس التنفيذي التسويق. والصفدي له خبرة واسعة في مجال تسويق العلامة التجارية، وإدارة الربح والخسارة، الإدارة العامة والقيادة، التخطيط الاستراتيجي، الحملات التسويقية والترويجية، تصنيف الأسواق، خدمة العملاء، تطوير المنتجات، الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، إدارة الموردين، الخدمات اللوجستية، المبيعات وتطوير الأعمال، تطوير ومراقبة مؤشرات الأداء الرئيسية، التحول الرقمي، والتجارة الإلكترونية، والمحافظ الماليه الرقمية، والهوية الرقمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى