بينما تتسارع وتيرة التحول الرقمي في مختلف القطاعات، تقف صناعة الأدوية على أعتاب نقطة تحول تاريخية تقودها الخوارزميات والأنظمة الذكية. فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة مساعدة في المختبرات، بل بات قوة دافعة تعيد رسم ملامح عملية تطوير الأدوية من جذورها، بدءاً من اكتشاف المركبات وحتى تسويق العلاج للمريض.
في السنوات الأخيرة، تصاعد دور الذكاء الاصطناعي ليصبح المرشح الأبرز لإحداث ثورة في تصميم الأدوية واختبارها، إلى حد أن بعض الخبراء لا يستبعدون أن نشهد خلال وقت قريب أول دواء يُطور بالكامل عبر الخوارزميات، دون تدخل بشري مباشر. لكن هذه الطفرة التقنية لا تقتصر على تسريع الجداول الزمنية، بل تعيد تعريف كيف نطور الدواء ومن يطوره.
وبفضل هذه التقنيات الحديثة يمكن أن تصبح صناعة الدواء أكثر كفاءة، وقادرة على التصدي للأمراض المستعصية بسرعة غير مسبوقة وبتكلفة أقل، ما يفتح الباب أمام عصر جديد في الطب يُنقذ فيه الذكاء الاصطناعي ما عجزت عنه العقود التقليدية.
1) كيف تبدأ الثورة الرقمية في صناعة الدواء؟
ارتكز تطوير الأدوية تقليدياً على تحديد ما يُعرف بـ”الهدف الجزيئي”، أي البروتين أو المستقبل البيولوجي المرتبط بالمرض، ثم يبدأ العلماء في اختبار آلاف المركبات الكيميائية التي قد تتفاعل مع هذا الهدف على أمل الوصول إلى علاج فعال. لكن هذا النموذج، القائم على التجربة والخطأ، آخذ في التراجع أمام صعود الذكاء الاصطناعي الذي غير قواعد اللعبة.
تشهد صناعة الأدوية اليوم ثورة رقمية حقيقية تقودها قدرات الذكاء الاصطناعي، الذي بات قادراً على تحليل كميات هائلة من البيانات الجينية والكيميائية والسريرية بسرعة ودقة تفوق إمكانيات البشر، ما يمكنه من تحديد أهداف علاجية جديدة وتطوير مركبات دوائية واعدة بزمن وتكلفة أقل بكثير من الأساليب التقليدية.
تعتمد هذه الثورة على خوارزميات متقدمة، أبرزها تقنيات التعلم الآلي والتعلم العميق، التي تتيح للأنظمة الذكية التنبؤ بكيفية تفاعل المركبات مع الأهداف البيولوجية بدقة عالية. وبدلاً من إجراء آلاف التجارب في المختبرات، تستطيع هذه النماذج الرقمية اختصار مرحلة الغربلة المبدئية من خلال محاكاة التفاعلات داخل الحاسوب، وهو ما يقلل الحاجة للتجارب المكلفة والمستهلكة للوقت.
ولا تقتصر مهارات الذكاء الاصطناعي على تسريع الاكتشاف، بل تمتد إلى القدرة على كشف روابط خفية بين المسارات البيولوجية وتطور الأمراض. هذه الروابط، التي قد تفوت حتى على أكثر العلماء خبرة، تساعد في تصميم أدوية تستهدف المرض على المستوى الجزيئي بدقة غير مسبوقة، مما يعزز فرص الوصول إلى علاجات فعالة ومُخصصة.
2) هل ينجح الذكاء الاصطناعي في اختصار سنوات تطوير الدواء إلى بضعة أشهر؟
لطالما ارتبط تطوير الأدوية الجديدة بمسار طويل وشاق يمتد عادةً لسنوات طويلة من البحث والتجريب، لكن أدوات الذكاء الاصطناعي باتت تغير هذه المعادلة جذرياً. إذ توفر الخوارزميات المتقدمة قدرة غير مسبوقة على تحليل كميات ضخمة من البيانات الكيميائية والبيولوجية والجينومية، ما يتيح الكشف عن مركبات علاجية واعدة بكفاءة وسرعة تفوق الوسائل التقليدية.
تمثل تجربة شركة “إكسسينتيا” (Exscientia) مثالاً ملموساً على هذا التحول، إذ تمكنت من تطوير مركب دوائي جديد خلال 12 شهراً فقط، بدلاً من المتوسط التقليدي الذي يصل إلى 4.5 سنوات، وذلك عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي المتخصصة في تصميم الأدوية وتوقع فعاليتها.
كذلك، تشير مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار (ITIF) إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكنه خفض الوقت اللازم لتصنيع الأدوية الجديدة وفحصها بنسبة تتراوح بين 40% إلى 50%، ما يؤدي إلى خفض التكاليف في هذه المراحل بما يصل إلى 26 مليار دولار سنوياً. كما يمكن للذكاء الاصطناعي تقليص مدة الأبحاث السريرية إلى النصف أو أكثر، وخفض تكلفتها بنحو 28 مليار دولار سنوياً، وذلك عبر أتمتة المهام اليدوية وتحليل البيانات الإحصائية بشكل أسرع وأكثر دقة.
3) ما المزايا الأخرى التي يتيحها الذكاء الاصطناعي لصناعة الدواء؟
لا تقتصر مزايا الذكاء الاصطناعي على اكتشاف الأدوية الجديدة، بل تمتد أيضاً إلى إعادة توظيف الأدوية القديمة لأغراض علاجية جديدة. فقد تم اعتماد عقار “أوزيمبيك” (Ozempic)، الذي طُور أصلاً لمرض السكري من النوع الثاني، كعلاج فعال للسمنة، في خطوة تمثل أحد التطبيقات المباشرة لتحليل الخوارزميات لمسارات المرض وتأثيرات المركبات.
ويؤكد الخبراء أن هذا التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي لن يقتصر على تقليل التكاليف أو تسريع الإنجاز، بل سيمكن من إنتاج أدوية أكثر فاعلية، والوصول بها إلى السوق في وقت قياسي، ما يعزز الابتكار في الصناعات الدوائية ويُحدث تحولاً نوعياً في منظومة الرعاية الصحية العالمية.
5) كيف تتعامل الجهات التنظيمية مع أدوية لم يبتكرها البشر؟
تتعامل الجهات التنظيمية الكبرى مثل هيئة الغذاء والدواء الأميركية ووكالة الأدوية الأوروبية مع الأدوية المطوّرة بواسطة الذكاء الاصطناعي ضمن نفس الأطر القانونية التقليدية، إذ لا يوجد حتى الآن مسار ترخيص منفصل لهذه الفئة من الأدوية. إلا أن التطورات المتسارعة دفعت هذه الهيئات إلى إصدار وثائق ومسودات إرشادية لتوضيح كيفية دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في مراحل التطوير الدوائي، مع الحفاظ على معايير السلامة والفعالية الصارمة.
تشترط هذه الهيئات التزام الشركات المطورة بالممارسات العلمية والتنظيمية السارية بغض النظر عن استخدام الذكاء الاصطناعي في التصميم أو التصنيع. كما تؤكد على ضرورة تقديم بيانات ومخرجات قابلة للتدقيق وشفافة ويمكن الوثوق بها.
وفي أوروبا، أصدرت وكالة الأدوية الأوروبية ورقة تنظيمية أكدت فيها أن أي نظام ذكاء اصطناعي يُستخدم ضمن ملفات الترخيص يجب أن يخضع لتقييم مبني على المخاطر، بما يشمل وظيفته ومجال استخدامه، مع الالتزام الكامل بقواعد جودة البيانات وسلامتها.
من الناحية الفنية، تُطالب الجهات التنظيمية بتقديم معلومات دقيقة عن الخوارزميات المستخدمة، بما في ذلك بنية النموذج وطرق تدريبه ومصادر البيانات المستخدمة. يتم التركيز على تقييم الشفافية وقابلية التفسير، خاصة في الحالات التي تُستخدم فيها خوارزميات الذكاء الاصطناعي الغامضة (الصندوق الأسود)، حيث تشترط الهيئات التنظيمية مبررات واضحة لعدم استخدام نماذج أكثر تفسيراً، وتوثيق شامل لكيفية تطوير الخوارزمية والتعامل مع البيانات.
كما تولي الجهات التنظيمية أهمية كبيرة لقضية التحيزات المحتملة في البيانات والتأكد من أن الخوارزميات لا تعكس أو تعزز انحيازات ضد فئات معينة. ويُشترط أيضاً توثيق قابلية التتبع لكل خطوة في تطوير النموذج، بما يشمل تواريخ التدريب والإصدارات المستخدمة والتحقق من الأداء من خلال بيانات مستقلة.
تُجري هيئة الغذاء والدواء الأميركية ووكالة الأدوية الأوروبية مراجعات دقيقة لأي استخدام للذكاء الاصطناعي خلال التجارب السريرية أو تحليل النتائج، وتُلزم الشركات بتقديم بروتوكولات واضحة توضح كيف أثرت الخوارزميات على سير الدراسة أو نتائجها. كما أن توظيف الذكاء الاصطناعي في التصنيع أو اليقظة الدوائية يخضع لمتطلبات صارمة تتعلق بإدارة الجودة والمساءلة.
باختصار، الجهات التنظيمية لا تعارض استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير الأدوية، لكنها تشترط الالتزام الكامل بمعايير السلامة والشفافية والمساءلة، دون تقديم أي تسهيلات خاصة لمجرد أن الدواء تم ابتكاره بواسطة خوارزمية.