الذكاء الاصطناعيالرئيسيةخاصمقالات

القرآن والتزييف العميق: دليل “فتبينوا”

قاعدة أخلاقية ومنهج حياة تزداد أهميتها في عصر الثورة التكنولوجية

هاشتاق عربي – وصفي الصفدي

منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، وفي خضم بناء مجتمع إسلامي يقوم على أسس الحق والعدل واليقين، أنزل الله تعالى على نبيه الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم، آية كريمة جامعة، تضع دستورًا خالدًا للتعامل مع الأنباء والأخبار. يقول المولى عز وجل في محكم تنزيله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”1 (الحجرات: 6). هذه الآية الكريمة، بكلماتها الوجيزة ومعانيها العميقة، لم تكن مجرد توجيه لموقف عابر، بل هي قاعدة أخلاقية ومنهج حياة، تزداد أهميتها وتتجلى ضرورتها في عصرنا هذا، عصر الثورة التكنولوجية والتدفق المعلوماتي الهائل.

الأساس القرآني – نبراس من الماضي ووحدة القيم الإلهية

لقد جاء هذا التوجيه الرباني في سياق تربية المجتمع المسلم الأول على التثبت والتروي، وعدم الانسياق وراء الشائعات أو الأخبار التي ينقلها من لا يُوثق في دينه أو أمانته (“فاسق”). فكلمة “فاسق” هنا تشمل كل من خرج عن طاعة الله، ومن لا يتحرى الصدق، وقد يكون مدفوعًا بهوى أو مصلحة شخصية أو جهل. والأمر بـ “فتبينوا” هو دعوة صريحة للتحقق والتثبت والبحث عن الحقيقة قبل اتخاذ أي موقف أو إصدار أي حكم.

وإن هذا التوجيه القرآني الفريد في بيانه وعمقه، ليجد جذورًا وأصداءً في المبادئ الأخلاقية العامة التي أكدت عليها الرسالات السماوية السابقة، مما يدل على وحدة المصدر الإلهي لهذه القيم التي تشكل منظومة أخلاقية متكاملة فيما يخص تناقل الأخبار. فالقيم الجوهرية التي تدعو إليها هذه الآية تتوافق مع المبادئ الأخلاقية العامة التي أكدت عليها الشرائع الإلهية الأخرى.

  • فتشترك الرسالات السماوية في تحميل الإنسان مسؤولية أفعاله وأقواله. فالآية القرآنية تختم بـ “فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”، مما يؤكد على العواقب الشخصية للتهاون في نقل الأخبار. هذا الشعور بالمسؤولية والندم المحتمل هو دافع أخلاقي للتحقق، وهو ما نجده بصور مختلفة في تعاليم الأنبياء السابقين التي تدعو لمحاسبة النفس والتوبة عن الأخطاء.
  • وبالمثل، تدعو الرسالات السماوية أتباعها إلى استخدام الحكمة والتمييز وعدم الانسياق الأعمى، وهو ما يتجلى في دعوات لاختبار الأمور وعدم تصديق كل ما يقال دون بصيرة وتيقن، فبالتالي فأن مبدأ التمحيص والتحقق هو جوهر مشترك.

والخلاصة والترابط في هذا السياق، يتضح أن التوجيه القرآني في الآية الكريمة “فتبينوا” ليس معزولًا عن السياق العام للقيم الأخلاقية التي جاءت بها الرسالات السماوية جميعها من سيدنا إبراهيم عليه السلام لخاتم الانبياء والرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فبينما تقدم الآية آلية واضحة ومحددة (التبين من خبر الفاسق)، فإنها تستند إلى مبادئ أوسع وأشمل أجمعت عليها الشرائع الإلهية كلها، مثل:

  • قدسية الحقيقة: فالحقيقة هدف وغاية، والكذب خطيئة.
  • حرمة الإنسان: فلا يجوز إيذاؤه أو ظلمه بناءً على شائعات أو أخبار غير موثقة.
  • المسؤولية الأخلاقية: فكل فرد مسؤول عن نقل المعلومات وتأثيرها.

إن هذا المنهج القرآني، المتناغم مع ما سبقه من هدايات، يضع المسؤولية الأولى على متلقي الخبر، فهو المكلف بالتبين والتحقق. ولم يقتصر التحذير على الضرر الذي قد يلحق بالآخرين نتيجة تصديق الإشاعات، بل امتد ليشمل الندم الذي سيصيب من انساق وراءها دون تبصر. وهذا يعكس حرص الشريعة الإسلامية، ومن قبلها الشرائع السماوية، على سلامة الفرد والمجتمع، وعلى بناء علاقات قائمة على الثقة واليقين لا الشك والتخمين.

صدى الحاضر: “التبين” في مواجهة طوفان التكنولوجيا

اليوم، وبعد مرور قرون على نزول هذه الآية، نجد أنفسنا أمام تحديات معلوماتية غير مسبوقة. فالتطور التكنولوجي المتسارع، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق (Deepfake)، قد فتحت أبوابًا واسعة لانتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة بسرعة تفوق الخيال. لم يعد “الفاسق” مقتصرًا على شخص بعينه، بل قد يكون حسابًا وهميًا، أو جهة منظمة تسعى لبث الفتنة، أو حتى خوارزميات ذكاء اصطناعي تُستخدم لتوليد محتوى مزيف يبدو حقيقيًا بشكل مخادع.

إن تقنيات مثل التزييف العميق قادرة على تركيب وجوه وأصوات لشخصيات حقيقية على محتوى ملفق، مما يجعل التمييز بين الحقيقة والزيف أمرًا بالغ الصعوبة على الإنسان العادي. وهذا يضاعف من أهمية الأمر الإلهي “فتبينوا”. فإذا كان التبين مطلوبًا من خبر ينقله فرد معروف بفسقه، فما بالنا بأخبار مجهولة المصدر، أو تلك التي تستخدم أحدث التقنيات لإخفاء كذبها وتزييفها؟

لقد أدركت المجتمعات الحديثة، خطورة هذه الظاهرة، وبدأت في سن القوانين وإنشاء هيئات لمكافحة الأخبار الكاذبة، وتعزيز ما يسمى بـ “التربية الإعلامية” و”التفكير النقدي”. وهذا التوجه الحديث، وإن جاء متأخرًا، ليس إلا صدى لما نادى به القرآن الكريم والرسالات السماوية من قبله، مما يؤكد عالمية القيم الإلهية وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

مفهوم الإدارة في القرآن الكريم: منظور شامل وأبعاد حديثة

كيف نتفاعل اليوم وفقًا للتوجيهات الإلهية؟

إن المنهج القرآني، ومن ورائه الإرث الأخلاقي للرسالات السماوية، يقدم لنا خارطة طريق واضحة للتعامل مع تحديات عصرنا الرقمي:

  • تفعيل مبدأ “فتبينوا” كواجب شرعي وفردي: يجب على كل فرد أن يستشعر مسؤوليته تجاه أي خبر أو معلومة يتلقاها، خاصة تلك التي تبدو مثيرة أو غريبة أو تمس أعراض الناس وسمعتهم. التبين هنا يشمل:
  • التساؤل عن المصدر: من هو ناقل الخبر؟ هل هو مصدر موثوق؟ ما هي دوافعه المحتملة؟
  • البحث عن أدلة وقرائن: هل هناك مصادر أخرى تؤكد الخبر أو تنفيه؟ هل يتوافق الخبر مع العقل والمنطق والسياق العام؟
  • استشارة أهل الاختصاص والخبرة: في المسائل التقنية المعقدة أو الأخبار التي تتطلب معرفة متخصصة، لا بد من الرجوع إلى الخبراء.
  • الحذر من المحتوى العاطفي: غالبًا ما تعتمد الأخبار الكاذبة على إثارة المشاعر لتجاوز التفكير العقلاني.
  • عدم نشر الشائعات: كما أن التبين واجب، فإن الكف عن نشر الأخبار غير الموثوقة هو جزء أساسي من هذا الواجب. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ”. فمجرد إعادة نشر خبر دون تثبت يجعلك شريكًا في تبعاته.
  • الاستفادة من التكنولوجيا في خدمة الحقيقة: يمكن تسخير أدوات التكنولوجيا الحديثة لكشف التزييف، مثل برامج تحليل الصور والفيديوهات، ومواقع التحقق من الحقائق (Fact-checking). كما يجب دعم الجهود البحثية لتطوير تقنيات مضادة للتزييف.
  • التربية على الأخلاقيات الرقمية: يجب أن تتضمن مناهجنا التعليمية وبرامجنا التوعوية تأصيل القيم الإسلامية، والقيم الإنسانية المشتركة المستمدة من الرسالات السماوية، في التعامل مع الفضاء الرقمي، وتعليم الأجيال الناشئة كيفية التفكير النقدي والتمييز بين الغث والسمين.
  • التذكير بعواقب الانسياق خلف الجهالة: يجب أن نتذكر دائمًا عاقبة الظلم والندم التي حذرت منها الآية الكريمة والتعاليم السماوية. فكم من علاقات دُمرت، وكم من سمعة شُوهت، وكم من فتنة أُوقدت بسبب خبر كاذب لم يتم التبين منه!

نظرة نحو المستقبل: بناء حصون أخلاقية متجذرة في تعاليم السماء

إن التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق ستستمر في التطور، ولكن المبادئ الأخلاقية التي أرساها ديننا الحنيف، والتي تتلاقى مع جوهر الرسالات السماوية، هي ثابتة وراسخة. المستقبل الذي ننشده يجب أن يكون مبنيًا على هذه الأخلاقيات. إن تعليمات القرآن والسنة النبوية، وتعاليم الأنبياء من قبل، ليست مجرد تاريخ يُروى، بل هي منهج حياة متجدد، قادر على مواكبة كل تطور وتقديم الحلول لكل معضلة.

إن التمسك بتوجيهات الله، كما علمنا إياها أنبياؤه الكرام، هو الضمان لبناء مجتمعات واعية، متماسكة، لا تنجرف خلف الأهواء والزيف، بل تسعى دائمًا نحو الحقيقة والعدل. فكما أن التقدم التكنولوجي يسير بخطى متسارعة، يجب أن يسير بالتوازي معه تعميق الوعي الأخلاقي والالتزام بالضوابط الربانية.

ختامًا،

إن آية “فتبينوا” تظل شعاع نور وهداية في زمن كثرت فيه الظلمات المعلوماتية، وهي دعوة متجددة تنسجم مع نداءات الحق والعدل في كل رسالة سماوية. هي دعوة دائمة للمؤمنين، بل وللإنسانية جمعاء، إلى تحكيم العقل، والبحث عن الحقيقة، والتروي قبل إصدار الأحكام أو اتخاذ المواقف. وفي عالم تتداخل فيه الحقائق بالأوهام بفعل التقنيات المتقدمة، يصبح هذا التوجيه الإلهي، المدعوم بإرث أخلاقي عريق، ليس فقط ضرورة أخلاقية، بل ضرورة وجودية لحماية عقولنا ومجتمعاتنا من الوقوع في براثن الجهل والندم.

يمكن القول إن الإسلام، من خلال هذه الآية، قد فصل وأكد على تطبيق عملي لهذه المبادئ الكونية المشتركة في سياق التعامل مع الأخبار والمعلومات، وهو أمر تزداد أهميته في كل عصر، وبالأخص في عصرنا الذي يتميز بالتدفق الهائل للمعلومات وسهولة نشرها. فالدعوة إلى “التبين” هي دعوة إلى العقلانية والمسؤولية والعدل، وهي قيم مشتركة تدعو إليها جميع الرسالات التي مصدرها الله تعالى، والتي جاءت لهداية البشرية وصلاحها.

وصفي الصفدي

خبير في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، بخبرة تزيد عن عشرين عاما، وكان قد عمل في العديد من كبريات الشركات في الأردن والمنطقة العربية التي تعمل في هذا القطاع، في مناصب قيادية، مثل رئيس تنفيذي، ومدير عام، ونائب رئيس تنفيذي، ونائب الرئيس التنفيذي التسويق. والصفدي له خبرة واسعة في مجال تسويق العلامة التجارية، وإدارة الربح والخسارة، الإدارة العامة والقيادة، التخطيط الاستراتيجي، الحملات التسويقية والترويجية، تصنيف الأسواق، خدمة العملاء، تطوير المنتجات، الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، إدارة الموردين، الخدمات اللوجستية، المبيعات وتطوير الأعمال، تطوير ومراقبة مؤشرات الأداء الرئيسية، التحول الرقمي، والتجارة الإلكترونية، والمحافظ الماليه الرقمية، والهوية الرقمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى