مقالات

السيادة الرقمية: هل التقنية أداه نستخدمها أم سلاح مسلط علينا؟

م. بلال خالد الحفناوي
استشاري التحول الرقمي والتقنيات الحديثة

شهد العالم في العقود الأخيرة ثورة تقنية هائلة، غيرت وجه الحياة على نحو جذري. فمنذ ظهور الإنترنت، تسارعت وتيرة التطور التقني بشكل مذهل، مما فتح آفاقًا جديدة للإنسانية في شتى المجالات، وتعاظم التطور والتوجه نحو العالم الرقمي بزيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى، وأثار هذا التطور السريع مخاوف كبيرة حول مدى سيطرتنا على هذه التقنيات، وهل تحولت التقنية من أداة في أيدينا إلى سلاح مسلط علينا؟
لقد ساهم التطور التقني بلا شك في تحسين حياتنا بطرق عديدة؛ فمن خلالها أصبح التواصل أكثر سهولة، والمعرفة في متناول الجميع، وتم تطوير قطاعات كثيرة بشكل ملحوظ كالصحة والتعليم والزراعة والصناعات المختلفة والتجارة، وتطور الاقتصاد الرقمي بشكل لم يكن ليتحقق لولا وجود تلك التقنيات، لكن في مقابل هذه الإيجابيات، ظهرت سلبيات هامة لا يمكن تجاهلها.
تُشكّل سلبيات الاعتماد على التقنيات التي لا نمتلكها تهديدًا خطيرًا على سيادتنا الرقمية وأمننا القومي، فهي لا تقتصر على زيادة مخاطر الاختراقات وانتهاك الخصوصية، بل قد تتعدى ذلك لتُؤثر على قدرتنا على حماية بياناتنا الحسّاسة والتحكم في بنيتنا التحتية الرقمية، مما قد يُضعف موقفنا أحياناً في عالمٍ تُسيطر عليه التقنية. ويزداد الخطر مع تنامي اعتمادنا على تلك التقنيات وشبكات التواصل والحوسبة السحابية الأجنبية وغياب البدائل الوطنية، مما يجعلنا عُرضة للتجسس والتلاعب وحتى الابتزاز في بعض حالات الصراع على المستوى الدولي.

أين تكمن المشكلة إذاً؟

إنّ جوهر المشكلة يكمن في غياب السيادة الرقمية، فاعتمادنا على تقنيات تمتلكها وتتحكم بها شركات أجنبية يعني أن بياناتنا، سواءً أكانت شخصية أو مهنية أو تجارية، مُعرّضة للاستغلال من قِبَل جهات خارجية قد تُسيء استخدامها بما يُضرّ بمصالحنا.
تخيل هذا: كلّما تصفحتَ موقعًا إلكترونيًا، أو استخدمتَ تطبيقًا للتواصل، أو أجريتَ عملية دفع إلكترونية، فإنّك تترك أثرًا رقميًا. هذه الآثار، التي تتضمن سجلّ تصفحك، موقعك الجغرافي، معلوماتك الشخصية، وحتى ميولك واهتماماتك، تُجمع وتُخزّن وتُحلّل من قِبَل هذه الشركات العملاقة.

ما هي المخاطر المحتملة من غياب السيادة الرقمية؟

انتهاك الخصوصية: قد تُباع معلوماتك الشخصية لجهات ثالثة دون علمك أو موافقتك.
التجسس والتلاعب: قد تُستخدم بياناتك للتجسس عليك، أو لتتبع تحركاتك، أو حتى للتلاعب بآرائك السياسية.
التهديدات الأمنية: قد تكون بياناتك عرضة للاختراق والسرقة، مما يُعرّضك لخطر الابتزاز أو الاحتيال.
التبعية التقنية: الاعتماد الكلي على التقنية الأجنبية يجعلنا عُرضة للضغوط السياسية والاقتصادية، وقد يُستخدم كسلاح ضدنا في حالات النزاع.

ماذا نعني بالسيادة الرقمية؟

السيادة الرقمية تعني ببساطة الحرية في اختيار واستخدام وتطوير التقنيات التي نحتاجها، دون تبعية لجهات خارجية، وهي القدرة على التحكم ببياناتنا وبنيتنا التحتية الرقمية، وضمان أمنها وخصوصيتها، واستخدامها لخدمة مصالحنا الوطنية.

تشمل السيادة الرقمية عدة جوانب:

امتلاك وتطوير تقنيات خاصة بنا (خطة طويلة الأمد): بدلاً من الاعتماد على التقنيات الأجنبية، علينا أن نسعى لبناء قدراتنا التقنية الخاصة في مختلف المجالات.
التحكم ببياناتنا: يجب أن نضمن أن بياناتنا تُخزّن وتُعالج داخل بلادنا، وأن تكون محمية بقوانين صارمة تضمن خصوصيتها وأمنها.
بناء بنية تحتية رقمية وطنية قوية ومتكاملة: يتطلب هذا إنشاء مراكز بيانات وطنية مترابطة تخدم كافة الجهات سواء كانت شركات خاصة او مؤسسات حكومية، بحيث تضمن تلك البنية استمرارية خدماتنا الرقمية حتى في ظروف الطوارئ او في حال انقطاع التواصل مع شبكة الانترنت العالمية.
وضع تشريعات وقوانين تُواكب التطورات في المجال الرقمي: لا تُعدّ القوانين الحالية في الكثير من الدول كافية لتنظيم العمل في المجال الرقمي وتأمين التحول الرقمي الآمن وصولا للسيادة الرقمية، لذا يجب أن تُسنّ قوانين جديدة تُواكب التطورات المُتسارعة في هذا المجال، وتضمن في نفس الوقت توطين تطوير التقنيات كأولوية قصوى وتنظيم عمل الشركات العالمية بحيث تضمن المنافسة العادلة في السوق.
تطوير الكفاءات الوطنية: يتطلب هذا الاستثمار في التعليم والتدريب، وتشجيع الشباب على البحث والتطوير في المجالات التقنية لبناء تقنيات وقدرات وكفاءات وجيل متكامل لسوق العمل المستقبلي.

خارطة الطريق نحو التحول من مستهلك إلى مصنع للتقنية:

التركيز على التعليم: يجب أن نبدأ من القاعدة وهي المدارس والجامعات، من خلال تطوير مناهج التعليم لتشمل المهارات الرقمية والتقنية، وأن تلعب الجامعات دورًا محوريًا في دفع عجلة التطور التكنولوجي، فهي ليست مجرد مؤسسات تعليمية تُخرّج الكفاءات، بل هي أيضًا مراكز بحثية تُعنى بتطوير التقنيات الحديثة وتقديم الحلول المبتكرة للتحديات التي تواجه المجتمع. كما توفر الجامعات بيئة مثالية للابتكار، من خلال توفير المختبرات والمعدات والموارد البشرية اللازمة لتطوير الأفكار الجديدة وتحويلها إلى منتجات وخدمات قابلة للتسويق. وأن تعمل الجامعات على بناء شراكات مع قطاع الأعمال والقطاع الحكومي لتطوير تقنيات وكفاءات تلبي احتياجات السوق وتُساهم في حل المشكلات المُلحة.
دعم الابتكار وريادة الأعمال وبناء قدراتنا التقنية الخاصة بنا: يتطلب هذا الاستثمار في البحث والتطوير، وتشجيع الشباب على دراسة المجالات التكنولوجية، ودعم الشركات التقنية الوطنية التي تهدف الى إيجاد بدائل للتقنيات المستوردة، ويجب أن نوّفر بيئة مشجعة للشباب المبتكرين ورواد الأعمال في المجال التقني، ويجب أن نخصص المزيد من الموارد للبحث والتطوير في المجالات التقنية الواعدة.
بناء شراكات استراتيجية: يجب أن نعزز التعاون مع الدول والمؤسسات التي تتمتع بخبرة في المجال التقني، والعمل بإطار تشاركي وليس استهلاكي لكافة المنتجات التقنية بدءا من التطبيقات الأكثر استخداما ومرورا بالبيانات وانتهاء بتوطين بناء الأنظمة والشبكات الاجتماعية والحوسبة السحابية، وأيضا بناء قدرات الأمن السيبراني التي ستحمي تلك الأنظمة والبيانات.
بالخلاصة؛ إن التحول من مستهلك إلى مصنع للتقنية ليس بالأمر الهين، لكنه هدف يمكن تحقيقه على المدى الطويل في حال توفرت الرؤية الواضحة مقترنة بالإرادة والعزيمة. وعلينا أن نعي أن التقنيات ليست مجرد أدوات نستخدمها، بل هي قوة قادرة على تشكيل مستقبل اقتصادنا وأمننا، ولذلك، يجب أن نحرص على أن تكون هذه القوة في أيدينا نحن، لا أن تكون مسلطة علينا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى