عندما سألت المعالجة النفسية جاريث بارنز عما إذا كان يشعر بالسعادة في عمله، لم تكن تقصد أن تقترح عليه أن يتبع خطاها. لكن السؤال كان حافزا له للشروع في مهنة جديدة في العلاج النفسي.
يقول الرجل البالغ من العمر 50 عاما، الذي كان يعمل آنذاك لدى شركة محاماة: “لم تكن وظيفتي تتوافق مع قيمي وما أردت فعله حقا”. وبعد ثلاثة أعوام، حصل على شهادة مؤهل استشاري، وظيفة في شركة تقدم العلاج في مكان العمل وعملائه الخاصين. “إنه أفضل شيء قمت به على الإطلاق”.
بارنز مجرد واحد من عدد متزايد من العمال، من المزارعين إلى المصرفيين الاستثماريين، الذين يتخلون عن وظائفهم التي شغلوها فترة طويلة لإعادة التدرب كمستشارين.
ومع تزايد الإقبال على العلاجات بالمحادثة، أصبح عدد أكبر من الناس يتطلعون إليها ليس لإصلاح المشكلات الشخصية فحسب، بل كمسار للخروج من العمل الشاق في الشركات للوصول إلى مهنة ذات معنى أكبر. تقول إيرينا بيزيتش، رئيسة الجمعية الأوروبية للعلاج النفسي: “لقد أصبح العلاج النفسي أكثر شعبية. أعتقد أنه مهنة القرن”.
تظهر البيانات الواردة من المنظمات التي تتطلب العضوية حتى تتمكن من ممارسة العمل أن أعداد المنضمين إلى هذه الصناعة قد ارتفعت في الأعوام الخمسة الماضية. وبين أبريل 2020 وأبريل من هذا العام، زاد أعضاء الجمعية البريطانية للاستشارات والعلاج النفسي، وهي واحدة من أكبر الجمعيات في المملكة المتحدة، بنسبة 27 في المائة ليصل إلى 66 ألف عضو، وارتفعت عضوية الطلاب بأكثر من الثلث إلى 13 ألف عضو.
يأتي هذا الارتفاع في أعقاب زيادة حادة في الطلب على خدمات الصحة العقلية. وتظهر الأرقام أنه بين عامي 2017 والعام الماضي، ارتفع عدد الأشخاص الذين اتصلوا بخدمات الصحة العقلية التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية بنسبة 25 في المائة، ليصل إلى 4.5 مليون. ويفيد مقدمو الخدمات الخاصون عن وجود عدد أكبر من الأشخاص الذين يسعون للعلاج بتمويل ذاتي، بينما تقول مؤسسة ريثنك مينتال إلنيس الخيرية إن الزيارات إلى موقع النصائح الخاص بها زادت بنسبة 175 في المائة خلال العام بدءا من مارس 2020.
يقول كريس أمبلر من الجمعية البريطانية للاستشارات والعلاج النفسي: “لقد لجأ عدد أكبر من أي وقت مضى من الأشخاص إلى العلاج بأنفسهم، ما يعني أن مزيدا من الناس يرون فائدة الاستمرار في إعادة تدريب الآخرين ودعمهم”.
لقد رأى ناثان شيرمان، مدير شركة ريد أمبريلا للتدريب العلاجي، ذلك لدى مجموعة غير متوقعة: المزارعين.
وعندما دخل في شراكة مع مؤسسة خيرية لتقديم استشارات مجانية للعمال الزراعيين العام الماضي، توقع بضع عشرات من العملاء. لكن حتى الآن تم تسجيل أكثر من 400 شخص. وذهب البعض إلى أبعد من ذلك، حيث التحقوا ببرامج التدريب ليصبحوا مسعفين أوليين في مجال الصحة العقلية كجزء من البرنامج، ويفكر كثير منهم في الالتحاق بدورات أكثر تقدما. يقول شيرمان: “في شيء مثل الزراعة، حيث المستقبل غير مؤكد إلى حد كبير، بدأوا يرون الاستشارة كخيار”.
ورغم أن هذا بعيد كل البعد عن مثالية الزراعة، إلا أنه لا يزال طريقا صعبا. ففي بلدان مثل النمسا وألمانيا، يجب أن يحمل المعالجون النفسيون مؤهلات معينة تتطلب عدة أعوام من الدراسة. وفي المملكة المتحدة، رغم الدعوات إلى وضع لوائح تنظيمية لمنع الأشخاص غير المؤهلين من ممارسة المهنة، لا توجد قيود قانونية على من يمكنه أن يطلق على نفسه اسم معالج نفسي. وبدلا من ذلك، من المتوقع أن ينضم الممارسون إلى هيئات الاعتماد، مثل الجمعية البريطانية للاستشارات والعلاج النفسي، التي تتطلب مستويات مشابهة من التدريب.
عادة، يأخذ المعالجون المحتملون دورة تأسيسية، ثم شهادة في مهارات الإرشاد، في الأغلب في كلية، قبل دورة أطول في جامعة أو جهة متخصصة في تقديم هذه الخدمة تجمع بين التعلم في الفصول الدراسية والتدريب على رأس العمل. يمكن تمويل بعض الدورات بقروض حكومية، لكن يحتاج كثير من المتدربين إلى مواصلة العمل أو الادخار من أجل تمويل حياتهم المهنية الجديدة.
ومع أن عملية التوظيف تتم بشكل سريع، إلا أن الموظفين الجدد لا يضمنون الحصول على وظيفة.
على موقع إنديد للتوظيف، أصبحت الإعلانات عن الوظائف المتعلقة بالعلاج النفسي أعلى بنسبة 80 في المائة مما كانت عليه قبل الجائحة. كما ارتفع الاهتمام بهذه الوظائف – التي تقاس “بالنقرات على كل منشور” – بنسبة 9 في المائة، ما يشير إلى أن تدفق المتدربين لم يتجاوز بعد النمو في العمل المتاح.
لكن في استطلاع أجرته الجمعية البريطانية للاستشارات والعلاج النفسي العام الماضي، وافق 40 في المائة فقط من المشاركين على أنه يمكنهم كسب لقمة العيش من العمل الاستشاري. وقال نحو ثلاثة أرباعهم: إن العمل العلاجي جلب دخلا أقل من 30 ألف جنيه استرليني، وإن 37 في المائة منهم حصلوا على 12500 جنيه استرليني أو أقل.
يقول نيكولا بول، الذي أسس مركزا استشاريا في جلاسكو بعد إعادة التدريب، إن السوق أصبحت أكثر تشددا. “كانت هناك وظائف أكثر من… الناس فترة طويلة. والآن أصبح عدد أكبر من الأشخاص مؤهلين، يمكنك تحديد ما تحتاج إليه حقا”.
وتخطط سامية*، التي تعمل في الإنتاج الإعلامي، للعمل في مجال العلاج النفسي من أجل تحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة وأيضا لمعالجة “النقص التام” في الأشخاص ذوي البشرة الملونة في هذه المهنة.
من مدير للموارد البشرية إلى مستشار
على عكس كثير من المستشارين المحتملين، لم تكن ماريا تخضع للعلاج قبل بدء التدريب. قررت مديرة الموارد البشرية مغادرة حي المال وتأسيس شركة استشارية بعد أن أصيبت بخيبة أمل بسبب المعاملة غير الودية للموظفين في البنك الاستثماري حيث كانت تعمل.
في ذلك الوقت، كان الدعم المؤسسي ضئيلا، ولم يكن الموظفون يتحدثون عما يواجهونه من مشكلات. تقول: “لقد قطعنا شوطا طويلا منذ تلك الأيام، من منظور الأجيال. الناس مستعدون للتحدث والكشف عن مشكلاتهم”.
بعد مراقبة أزمات الصحة العقلية في عائلتها، قررت ماريا اتخاذ خطوة إعادة التدرب كمعالجة نفسية. من بعض النواحي، كان القرار غير متوقع.
وتقول: “أنحدر من خلفية إيطالية من الطبقة العاملة – لم نكن نناقش المشاعر والعواطف حقا. لو سألتني عام 2010 هل سأسلك هذا الطريق، لقلت لا”.
لقد أنهت للتو عامها التأسيسي. ويأتي بعد ذلك مزيد من التدريب المكثف، بما في ذلك التدريب العملي يوما واحدا في الأسبوع، إلى جانب العلاج الشخصي الفردي. “لقد تعلمت كثيرا عن نفسي… أوصي بهذا بشدة كرحلة لاكتشاف النفس”.
في الـ47 من عمرها، تشعر أن تجربتها – سواء في الحياة أو في إدارة أعمالها الخاصة – ستجعلها أفضل في حياتها المهنية الجديدة. كما أنها مفيدة من الناحية العملية، حيث لديها مدخرات لتمويل دراستها وستواصل العمل كمستشارة إلى جانب التدرب.
وباعتبارها أما لطفلين في سن المراهقة، فإنها تأمل في التخصص في علم نفس الأطفال والمراهقين، وربما إنشاء عيادة خاصة أو العمل لدى مؤسسة خيرية، مع مواصلة عملها الاستشاري. وتقول: “سأعمل لحسابي الخاص، وأختار ساعات عملي سواء في الموارد البشرية أو الاستشارة”.
ورغم قضائها 20 عاما على الأريكة، إلا أنها وجدت أخيرا معالجا يشاركها تراثها الجنوب آسيوي، ما يسلط الضوء على كيف كان الافتقار إلى الفهم الثقافي عقبة. “أردت أن أبدأ في التغلب على هذه المشكلة”.
ومع ذلك، فقد اضطرت إلى إفراغ مدخراتها لتمويل التدريب، وتعتقد أن التكاليف المرتفعة تمنع الأشخاص مثلها من دخول هذه الصناعة.
كما يجب على المتدربين عموما أن يخضعوا للعلاج بأنفسهم، ما يضيف تكاليف تصل إلى عدة مئات شهريا. إن الأعضاء المؤسسين في المهنة الذين يتقاضون أجورهم من القادمين الجدد يشعرون بعدم الارتياح تجاه هذا الترتيب. “إنه في الحقيقة مخطط بونزي ببساطة”، كما علق كاسبار، الذي يبدأ الدراسة هذا العام، بسخرية.
ومع ذلك، فإن التأمل الذاتي مدى الحياة يمثل عامل جذب رئيس في هذه المهنة. يقول بول: “تعتقد أنك ستساعد الآخرين [لكنك] في الواقع ستساعد نفسك وتتعلم مزيدا عن نفسك”.
وتضيف سامية أن العمل على نفسيتها، من خلال العلاج الشخصي والفصول الدراسية، كان “مذهلا”، وإن كان يمثل تحديا. “تشعر حقا كأن كيانك بأكمله يتمزق ويتم فحصه”.
في شركة تافيستوك ريليشينشبس، وهي شركة تقدم استشارات للأزواج وتقوم أيضا بتدريب المعالجين، تبلغ تكلفة دورة الماجستير لمدة أربعة أعوام، التي يتم تقديمها بالشراكة مع جامعة بيركبيك في لندن 7395 جنيها استرلينيا سنويا. ومع تجاوز أعداد المشاركين الحد المسموح بشكل روتيني، فقد اجتذبت الدورة هذا العام المتقدمين من الصحافة والسفر الجوي، حيث تم الاستغناء عن العمال المهرة في التفكير التحليلي أو الاتصالات.
يقول أندرو بلفور، الرئيس التنفيذي لشركة تافيستوك ريليشينشبس، إن الدورة تنطوي على “العمل بشكل وثيق” على أسئلة عميقة – تماما مثل الوظيفة التي يدرس الطلاب من أجلها. ويقول: “يهتم العلاج النفسي بالتشابكات التي ندخل فيها حقا في حياتنا وعلاقاتنا، وفهم ذلك على مستوى اللاوعي. يبدأ الأمر يتعلق بمعنى الحياة”.
هذا العام، كثير من المتقدمين استلهموا من كوبلز ثربي، وهو مسلسل تلفزيوني تم تصويره في غرفة الاستشارة الخاصة بالمعالجة أورنا جورالنيك، التي تم تصميمها في منتصف القرن، كما يضيف.
لا توصي الجمعية البريطانية للاستشارات والعلاج النفسي الوافدين الجدد بإنشاء عياداتهم الخاصة، رغم أن البعض يفعل ذلك. بالنسبة لكثير من المعالجين النفسين الجدد، قد يكون الدور الأول الأكثر واقعية هو برنامج مساعدة الموظفين. تقدم الشركات في هذا القطاع الفرعي سريع النمو، خدمات الصحة العقلية لموظفيها، عادة في شكل استشارات هاتفية أو دورات إرشادية محددة المدة ومستهدفة.
يشكك بعض المعالجين في مقدمي الخدمة هؤلاء، بحجة أنهم يقدمون شكلا سطحيا نسبيا من المساعدة وأجورا أقل. لكن أمبلر يقول إنهم يوفرون “مسارا جيدا”، في الأغلب إلى جانب العمل الخاص أو الاستشارة المجانية أو شبه المجانية للجمعيات الخيرية.
كما بدأ أصحاب العمل، بما في ذلك شركات المحاماة هوجان لوفيلز ولينكلاترز وبنك جولدمان ساكس، في تقديم الدعم النفسي للموظفين، مع توافر المعالجين النفسيين في الموقع.
يقول برنامج مساعدة الموظفين هيلث أشورد، ومقره مانشستر، حيث يعمل بارنز بدوام جزئي، إن الطلب ارتفع، ويرجع ذلك جزئيا إلى قلق أصحاب العمل من اعتلال الصحة العقلية الذي يؤدي إلى غياب موظفيهم. تقول كايلي فروست رئيسة العيادة: “إن الأمر لا يتوقف ولا نرفض أي شخص”.
وتضيف أن العملاء لديهم احتياجات أكثر تعقيدا من الأعوام السابقة، وأصبحت برامج مساعدة الموظفين بمنزلة “شريان حياة” جزئيا بسبب الضغوط على الخدمات الصحية الحكومية.
يعمل نحو 20 ألف معالج نفسي لدى هيئة الخدمات الصحية الوطنية، وفقا لشبكة المهنيين النفسيين. ورغم أن حكومة المملكة المتحدة تعمل على توسيع نطاق علاجات المحادثة، إلا أن التمويل المحدود يعني أن قوائم الانتظار طويلة.
ومع تفكير مزيد من الناس في العمل في مجال العلاج النفسي، فإن الأجور المتدنية والظروف السيئة في القطاع العام تعني أن قطاعات مثل التمريض والعمل الاجتماعي تعاني نقص الموظفين.