هاشتاق عربي
تخوض الصين والولايات المتحدة الأمريكية منافسة تكنولوجية شرسة ستحدد شكل مستقبل صناعة التكنولوجيا خلال السنوات القليلة القادمة، وسينجم عن هذا التنافس انعكاسات هامة على صعيد نمو أو تراجع اقتصادات الدول، وملامح سياساتها، وأمن المعلومات وتطور التقنيات عالمياً.
اتخذت هذه المنافسة منعطفاً هاماً في عام 2019 عندما أعلنت الحكومة الأمريكية عن حظر ضد شركات التكنولوجيا الصينية وتشديد القيود عليها بموجب سلسلة من الأوامر التنفيذية والقوانين التي منعت حصول بعض شركات التكنولوجية الصينية على المكونات الأمريكية الضرورية لصناعاتها التكنولوجية وفي مقدمتها أشباه الموصلات أو ما يسمى بالرقائق. وفسر العديد من المحللين قرارات الحكومة الأمريكية من باب محاولة كبح جموح تنافسية الصين المتزايدة في مجالات تكنولوجية هامة يأتي على رأسها الذكاء الاصطناعي وشبكات اتصالات الجيل الخامس نظراً لدورهما الحيوي في صياغة مستقبل العديد من القطاعات والصناعات حول العالم، ناهيك عن قدرتهما في بناء اقتصادات الدول الرقمية.
لا تقتصر أهمية تقنية الجيل الخامس على تعزيز قدرات شبكات الهاتف المحمول لناحية نقل البيانات بشكل أسرع وأكثر موثوقية، بل تدعم هذه التقنية أيضاً التقنيات الناشئة مثل السيارات ذاتية القيادة والمصانع الذكية والمدن الذكية. كما قيدت أمريكا وصول الصين إلى الرقائق القوية التي تشغل أنظمة الذكاء الاصطناعي مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي. لذلك، يرى بعض الخبراء أن منع حكومة الولايات المتحدة شركات الاتصالات الأمريكية من استخدام معدات شبكة الجيل الخامس من موردين صينيين، وضغطها على حلفائها الغربيين لاتخاذ إجراءات مماثلة ردة فعل طبيعية لريادة الصين المتصاعدة في هذا المجال، بينما يرى خبراء آخرون بأن مثل هذه القرارات تصب في خانة لجم التنافسية الشريفة وإقحام السياسة في مسائل التنافسات التجارية.
ورداً على ذلك، اتبعت الصين سياسة الاعتماد على الذات، لا سيما في مجال أشباه الموصلات، الذي يمثل المحرك الجديد للاقتصاد العالمي. ويتجلى هذا النهج في استثمارات الدولة بمجال البحث والتطوير؛ حيث سجلت 4.212 مليون براءة اختراع صالحة حتى عام 2022، مما يجعلها أول دولة تتجاوز عتبة 3 ملايين براءة اختراع. وبحلول عام 2022، امتلكت الصين حوالي 40% من براءات الاختراع الأساسية القياسية لتقنية الجيل الخامس، وهو ما يمنحها تأثيراً كبيراً على توجهات ابتكار وتطوير هذه التقنية.
وتعتمد الصين استراتيجية وطنية تستهدف ريادة مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030 عالمياً، وتمتلك لذلك مخزوناً هائلاً من البيانات والمواهب والاستثمارات التي تدعم استراتيجية تطوير ونشر تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة في مختلف القطاعات.
من أبرز الأمثلة على شركات التكنولوجيا الصينية التي تم إقحامها في حلبة الصراع الأمريكي الصيني شركة هواوي، مارد شبكات الاتصالات والعديد من التقنيات المتقدمة الأخرى، إذ سرعان ما وجدت الشركة نفسها في مرمى نيران الحكومة الأمريكية التي استهدفتها بشكل خاص، ووضعتها على القائمة السوداء، مما أعاق وصولها إلى المكونات.
لكن يبدو أن رب ضارة نافعة، فقد دفع ذلك هواوي لزيادة استثماراتها في مجال البحث والتطوير في محاولة لإيجاد البدائل، وبلغت نفقاتها السنوية في هذا المجال 23.22 مليار دولار في 2022، أي ما يمثل 25.1% من الإيرادات السنوية للشركة، وبلغ إجمالي إنفاقها على البحث والتطوير خلال السنوات العشر الماضية أكثر من 140.55 مليار دولار أمريكي. واحتلت الشركة المرتبة الرابعة على لائحة الاتحاد الأوروبي للاستثمار في البحث والتطوير الصناعي، كما حصلت بحلول نهاية عام 2022، على ما يزيد عن 120,000 براءة اختراع صالحة.
يفسر العديد من محللي صناعة الاتصالات وتقنية المعلومات دوافع الولايات المتحدة من العقوبات والحظر في إطار كبح الريادة الصينية في مجال تقنية الجيل الخامس تحديداً لضمان الهيمنة الأمريكية أو الغربية عموماً على السوق العالمية. ويؤيد ذلك تصريح بعض كبار المسؤولين الأمريكيين علناً عن رغبتهم في إبقاء هواوي خارج الأسواق الغربية، وتعزيز المصالح التجارية للتكنولوجيا الأمريكية. فقد كشف وزير الخارجية الأمريكي السابق مايكل بومبيو تصريحاً أن أوروبا “بحاجة إلى إقصاء” هواوي “من نظامها” من أجل ضمان بقاء “هوية القرن المقبل غربية”. وأشار المدعي العام الأمريكي السابق ويليام بار أن “المشكلة” تكمن في بعض الشركات الأمريكية الخاصة التي لا تقوم بما يكفي للحفاظ على القوة الأمريكية، ودعا بار إلى “اتخاذ إجراءات صارمة” ضد الباحثين الصينيين “الذين يتم إرسالهم للمشاركة في برامجنا التكنولوجية الرئيسية”، وحث الغرب على استبعاد الشركات الصينية مثل هواوي وتفضيل العلامات التجارية الغربية في مشاريع شبكات الجيل الخامس.
على الرغم من أن الإجراءات الأمريكية أدت لعرقلة نمو أعمال هواوي خلال المرحلة الماضية، إلا أن العملاء هم فعلياً من يدفعون الثمن في نهاية المطاف. إذ توضح التقارير أنه في الدول الأوربية التي حذت حذو الولايات المتحدة واستبعدت هواوي من تطوير شبكات الجيل الخامس تتخلف اليوم عن طرح هذه التقنية، وبالتالي ستتخلف عن سباق التحول الرقمي. والعديد من البلدان التي آزرت توجه الولايات المتحدة تواجه تأخيرات وصعوبات في نشر شبكات الجيل الخامس ودفع عجلة التحول الرقمي كما ذكرت إحدى وسائل الإعلام الألمانية، إضافة إلى تراجعهم على مؤشر الاقتصاد الرقمي للمفوضية الأوروبية وحصول ثغرات على صعيد استفادتهم من المزايا التي توفرها تقنية الجيل الخامس، مثل السرعات الأعلى، وانخفاض وقت الاستجابة، واستخدامها في مجالات أخرى مثل المدن الذكية، والمركبات ذاتية القيادة، وإنترنت الأشياء، بالإضافة لخفض فرص قدرة الشركات ورواد الأعمال في تلك البلدان على ابتكار حلول وفرص جديدة. وتعد المملكة المتحدة مثالاً على ذلك، حيث أدى الحظر المفروض على هواوي إلى إبطاء طرح شبكات الجيل الخامس وزيادة التكاليف على المشغلين والمستهلكين في البلد.
هناك العديد من الأصوات التي ترفع شعار التنافسية العادلة في مجال التكنولوجيا، حتى المنافسين العالميين لشركة هواوي، مثل الرئيس التنفيذي لشركة إريكسون، انتقدوا الحظر الأمريكي لأنه يقوض التجارة الحرة وشفافية المنافسة ويضر بمصالح تطوير مستقبل القطاع ويمنح الشركات الأمريكية ميزة استثنائية بالحصول على إعفاءات لبيع المكونات لشركة هواوي في حين تحظر شركات الدول الأخرى من ذلك.
يعود الحظر أيضاً بعواقب وخيمة على صناعة أشباه الموصلات الأوروبية. وكخطوة لمواجهة هذا التحدي، أطلقت 17 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي مبادرة للاستثمار في أبحاث المعالجات وأشباه الموصلات. وحتى داخل الولايات المتحدة نفسها، ضغطت شركات مثل إنتل وكوالكوم وزيلنكس لتخفيف القيود المفروضة على هواوي، خوفاً من خسارتها للأرباح وتناقص حصصها السوقية. فقبل القيود، كانت هواوي تشتري سنوياً مكونات بما يقارب 11 مليار دولار من الشركات الأمريكية.
في منطقة الشرق الأوسط، اتخذت العديد من الدول موقفاً محايداً من الصراع التجاري والتكنولوجي الأمريكي الصيني، وركزت بدلاً من ذلك على اتخاذ إجراءات تدعم تطوير بنيتها التحتية لتقنية المعلومات واقتصاداتها. ونتيجة لذلك، أصبحت بعض دول المنطقة اليوم رائدة في طرح شبكات الجيل الخامس وتطور مراحل تحولها الرقمي. وهناك العديد من الشركات الصينية الداعمة، مثل هواوي التي أطلقت مؤخراً منطقة إقليمية سحابية في العاصمة السعودية الرياض، وكانت شريكة استراتيجية لدول عديدة في مجال بناء شبكات الجيل الخامس ودعم التحول الرقمي.
بغض النظر عن إجراءات الحظر والحمائية التجارية التي تقوم بها بعض الدول، لا يجب أن تمس هذه الإجراءات بحقوق الشعوب في التنمية والتقدم بالاستفادة من التطور التكنولوجي والتنمية، ولا يجب أن يتم وضع أية عراقيل تضر بدفع عجلة التطور بصناعة التكنولوجيا العالمية وصياغة مستقبل المنتجات والحلول المتقدمة التي يتطلع لها المستهلكين.