تطوف على سطح القمر، إلى جانب الكتب المقدسة وكرات الغولف التي تركها خلفهم هناك رواد فضاء بعثة “أبولو” الفضائية، بقايا محاولاتنا بلوغ ذلك المكان [سطح القمر]. الحطام الفضائي الأحدث خلفته مركبة الهبوط الروسية “لونا 25” Luna-25 التي أخفقت في تنفيذ مهمتها قبل بضعة أيام فقط [تحطمت على سطح القمر بعد دخولها مداراً غير خاضع للسيطرة]، ولكن هذا الحطام التحق بمخلفات مجموعة من مركبات الهبوط الأخرى المحطمة: المركبة الفضائية التابعة لشركة إسرائيلية ناشئة تهدف إلى تنفيذ الهبوط الأول على سطح القمر الممول من القطاع الخاص؛ ومركبة هبوط فضائية مملوكة لدولة الإمارات العربية المتحدة تحطمت في وقت سابق من العام الحالي؛ إضافة إلى مركبة أخرى استخدمتها الهند في محاولة باءت بالفشل عام 2019.
بناء عليه، يمثل هبوط الهند الناجح لمسبارها الفضائي الجديد “تشاندرايان-3” Chandrayaan-3 إنجازاً استثنائياً في حد ذاته. وأعلنت وكالة الفضاء الهندية اليوم أنها نجحت في تحقيق “هبوط آمن” على سطح القمر، وهي لحظة تاريخية وغير مسبوقة.
أنجزت الهند هذا الهدف معتمدة على موازنة مالية متواضعة، أقل من نصف تكلفة إنتاج فيلم [الخيال العلمي] “إنترستيلر” (بين النجوم)Interstellar ، وبذلك احتلت المرتبة الرابعة بين الدول التي تابعت طريقها إلى سطح القمر، وأصبحت الدولة الأولى التي تهبط على مقربة من القطب الجنوبي للقمر [غير المستكشف]. يُذكر أن البشرية شرعت في استكشاف القمر منذ عام 1959، عندما اصطدمت المركبة الروسية “لونا-2” [غير المأهولة] عمداً بسطحه، بيد أن هذا الهدف لم يصبح أكثر يسراً.
في الحقيقة، لا يشكل الهبوط الناجح على سطح القمر سوى نصف الغاية من البعثة الهندية، التي ترمي إلى دراسة ما إذا كانت المنطقة المحيطة بالقطب الجنوبي تحتوي فعلاً على جليد مائي، وما إذا كان ممكناً استخدام الجليد المائي، إذا صح احتمال وجوده، في دعم وجود أشكال من الحياة على سطح القمر. واستكشاف القمر ليس في حد ذاته سوى جزء من الهدف الذي يطمح إليه السباق الجديد إلى الفضاء.
دخلت إلى المنافسة الفضائية مجموعة كبيرة من المشاركين الجدد: إضافة إلى الهند، تنضم الصين وعدد من الدول الأخرى إلى الولايات المتحدة وروسيا في توسيع برامجها لاستكشاف الفضاء. كذلك في نية هذه البلاد باقة متنوعة من الأهداف الجديدة: يبدو أن القمر ليس سوى البداية.
وفي الواقع، جانب كبير من الحماسة المحيطة بالبعثات الأخيرة إلى القمر لا تتعلق بالقمر نفسه، بل بإمكانية توسله كنقطة انطلاق تأخذنا إلى أجزاء أبعد من النظام الشمسي. وقد صار معلوماً أن المستعمرات القمرية المستقبلية ربما تشكل طريقة ناجعة لاستخراج الموارد الطبيعية من القمر، ومن شأنها أن تجعل السفر إلى المريخ أكثر سهولة أيضاً، ذلك أن وجود مكان للتوقف فيه يجعل تكلفة تلك البعثات أقل كثيراً.
ولا تختلف تلك الأهداف المذكورة عن الهدف المعلن لبرنامج “أرتميس”Artemis التابع لـ”ناسا”: لا يُختصر الأخير، وفق وكالة الفضاء الأميركية، بكونه وسيلة لزيارة القمر مجدداً، إنما هو مشروع سيفتح الطريق أمامها لـ”الاستعداد لإطلاق بعثات إلى المريخ”. هذه المزاعم صحيحة، ولكنها تشي أيضاً بمصاعب وطابع المهمة الشائك: ما زال السفر إلى القمر خطوة صعبة، ولكن يبدو أيضاً أنها ستكون سهلة، نظراً إلى مرور وقت طويل منذ أن سافر البشر إلى هناك للمرة الأولى.
في العقود الأخيرة، تباطأت عجلة استكشاف الفضاء. كان يوري غاغارين أول إنسان يصعد إلى الفضاء عام 1961؛ وكانت تلك الرحلة أقرب زمنياً إلى رحلة الطيران الأولى التي نفذها الأخوان رايت [أورفيل وويلبر] منها إلى يومنا هذا. وكان آخر شخص وطأت قدماه سطح القمر يوجين سيرنان، في إطار بعثة “أبولو 17” في عام 1972.
ولكن في الأعوام القليلة الماضية، اكتسب الاهتمام باستكشاف الفضاء زخماً جديداً، مدفوعاً في جانب كبير منه بتدفق الاستثمارات على الشركات الخاصة. وتبرز ضمنها الشركات الفضائية الأميركية، من بينها “سبيس إكس” SpaceX، التي ستوفر نظام هبوط الإنسان الذي سيسمح للبشر فعلاً بالعودة إلى القمر. بيد أنها لا تغرد وحدها.
أحد الأسباب وراء الحماسة تجاه نجاح الهند في بعثة “تشاندرايان 3” أنه يمثل نموذجاً رائعاً يعود بالنفع على صناعة الفضاء الخاصة في البلاد، والتي روج لها بشغف رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي. بدأت الهند في تقديم رحلات فضائية خاصة، والبحث عن استثمار أجنبي في هذا القطاع. وتعتبر التكلفة المتواضعة للبعثة القمرية ضربة مثالية في عالم التسويق بالنسبة إلى قطاع صناعة الفضاء التي تفتخر بتقديم عمليات إطلاق غير مكلفة إنما موثوقة. وسيكتسي التسويق قدراً من الأهمية، في وقت تعكف كل دولة كبرى في العالم على توسيع حملتها علها تصبح مركزاً جديداً لعمليات الإطلاق الفضائية.
قطاع الفضاء الممول من القطاع الخاص، شأن نظيره الذي تديره الدولة، ليس شاغله الأكبر القمر. وينصب جزء كبير من عمل القطاع الخاص على مشاريع أقرب إلينا، من قبيل إطلاق سلسلة من أقمار اصطناعية قادرة على توفير صور واتصال بالإنترنت للناس على الأرض. ويعزى التركيز الكبير على “سبيس إكس” إلى طموحها المعلن لاستكشاف النظام الشمسي، غير أن القسم الأكبر من نشاطها الآن يشتمل على إطلاق سلسلة متحركة من الأقمار الاصطناعية، والتي أدى تكرارها إلى أن تصبح إنجازاً عادياً تقريباً.
وعلى رغم كل الإثارة والفخر المحيطين بعمليات الإطلاق الفضائية، ليست في أحوال كثيرة سوى ابتكار يضاهي قطارات الشحن إنما في القرن الحادي والعشرين. فهي تحمل قطعاً مهمة، وإن كانت مملة، من المعدات إلى مدار قريب من الأرض. وهذا أيضاً الهدف الذي يدور حوله جزء كبير من السباق الجديد إلى الفضاء، مهما كانت التصريحات بشأنه حماسية ومثيرة للاهتمام.
في الغالب، ينطوي استكشاف الفضاء على ما هو أكثر من مجرد استكشاف الفضاء [الخارجي]. وُلد السباق الأساسي إلى الفضاء من سباق التسلح النووي، وآنذاك، كان الأمن القومي، فضلاً عن سمعة أكبر قوتين في العالم [الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي]، على المحك. يدور هذا السباق الجديد إلى الفضاء إلى حد كبير حول القوة الناعمة والعملة الصعبة.
ولكن هذا الكلام لا يعني أن الدهشة لا يجب أن تغمرنا عند إطلاق صاروخ قوي، أو هبوط مركبة فضائية مبتكرة على سطح القمر. في المتناول، ونحن ندرك ذلك الآن تماماً كما فعلت تلك القوتان في عام 1969، طرائق أكثر رعباً لاستخدام الصواريخ، وأماكن أكثر دماراً للسقوط فيها.
المصدر: إندبندنت عربية