أصيب قطاع التكنولوجيا في الصين بهوس جديد هو منافسة الشركات الأميركية العملاقة، مثل “غوغل” و”مايكروسوفت”، في السباق العالمي المحتدم للذكاء الاصطناعي. فرواد الأعمال المليارديرات، والمهندسون متوسطو الخبرة، وخبراء الشركات الأجنبية، على حد سواء، لديهم حالياً طموح ثابت ومستمر بشكل ملحوظ: التفوق على خصم الصين الجيوسياسي في تكنولوجيا قد تحدد حصص القوى العالمية.
من ضمن هؤلاء الرواد، قطب الإنترنت وانغ شياو تشوان، الذي دخل مجال الذكاء الاصطناعي بعدما أثار إطلاق “تشات جي بي تي”، الذي طورته شركة “أوبن إيه آي” (OpenAI)، عاصفة على منصات التواصل الاجتماعي في نوفمبر. انضم وانغ إلى مجموعة كبيرة من العلماء والمبرمجين والممولين الصينيين، ومنهم موظفون سابقون في شركة “بايت دانس” (ByteDance Ltd)، ومنصة التجارة الإلكترونية “جيه دي دوت كوم”، و”غوغل”. ويُتوقع أن ينفقوا على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في العام الجاري نحو 15 مليار دولار.
إقبال رواد الأعمال يضيق الفجوة
أسس وانغ محرك “سوجو” (Sogou) للبحث، واشترته شركة “تينسنت” في صفقة قيمتها 3.5 مليار دولار قبل أقل من عامين. وسرعان ما قدمت الفرصة نفسها إلى وانغ. فبحلول أبريل، أسس خريج كلية علوم الحاسوب شركته الناشئة وحصل على 50 مليون دولار كرأس مال أولي. وتواصل مع موظفيه السابقين في “سوجو”، وأقنع العديد منهم بالانضمام إليه. بحلول يونيو، أطلقت شركته نموذجاً لغوياً ضخماً مفتوح المصدر، ويستخدمه الباحثون في أبرز جامعتين في الصين.
أطلق وانغ على شركته الناشئة اسم “بايتشوان” (Baichuan)، أي “الأنهار المئة”. وقال لبلومبرغ: “سمع جميعنا صافرة بداية السباق. شركات التكنولوجيا، كبيرة كانت أو صغيرة، كلها تقف على خط البداية ذاته. ما تزال الصين متأخرة عن الولايات المتحدة 3 سنوات، لكن قد لا نحتاج لثلاث سنوات للحاق بها”.
تدفق الفئة الأعلى من أصحاب الكفاءات الصينيين والتمويل إلى مجال الذكاء الاصطناعي يعكس موجة من النشاط تهز أركان “وادي السيليكون” (شركات التكنولوجيا الأميركية)، ما سيكون له تبعات كبيرة على الصراع المتفاقم بين الصين وواشنطن. يتوقع المحللون والمديرون التنفيذيون أن الذكاء الاصطناعي سيشكل رواد قطاع التكنولوجيا في المستقبل، كما أنشأ الإنترنت والهاتف الذكي مجموعة من الشركات العالمية العملاقة. فضلاً عن ذلك، فقد يمكن له نقل الاستخدامات من الحوسبة الفائقة إلى القوة العسكرية، ما قد يقلب الموازين الجيوسياسية.
يختلف المشهد في الصين بشكل كبير، حيث تقيده العقوبات التكنولوجية الأميركية، والبيانات الصادرة عن الجهات التنظيمية، والمتطلبات الرقابية، والارتياب الغربي الذي يحد من التوسع العالمي لشركاتها الوطنية العملاقة. كل ذلك سيفاقم من صعوبة اللحاق بالولايات المتحدة.
تمثل استثمارات الذكاء الاصطناعي في أميركا أضعاف مثيلتها في الصين، إذا بلغت 26.6 مليار دولار خلال هذا العام حتى منتصف يونيو الجاري، مقارنة باستثمار 4 مليارات دولار فقط في الصين، وفقاً لبيانات سابقة لم يُكشف عنها جمعتها شركة “بري كين” (Preqin) الاستشارية.
إلا إن الفجوة بين البلدين تضيق تدريجياً، على الأقل من جهة تدفق الصفقات. يشكل عدد صفقات الاستثمار من قبل شركات رأس المال الجريء في الصين في الذكاء الاصطناعي أكثر من ثلثي إجمالي الصفقات في الولايات المتحدة الذي قارب 447 صفقة في هذا العام حتى منتصف يونيو الجاري، مقارنةً بنحو 50% على مدى العامين السابقين. كما تجاوز عدد الصفقات في شركات الذكاء الاصطناعي التي يقع مقرها في الصين نظيرها في شركات تكنولوجيا المستهلكين في 2022 ومطلع 2023، حسب “بري كين”.
ما يزال هناك أمل لبكين، إذ تدرك إدارة الرئيس شي جين بينغ أن الذكاء الاصطناعي، مثله مثل أشباه الموصلات، سيكون عاملاً حاسماً في الحفاظ على تفوق الصين، ويُرجح أن تحشد موارد الدولة لدفع عجلة التطور. وبينما تراجع الاستثمار في الشركات الناشئة خلال الأعوام التي طاردت فيها بكين شركات التكنولوجيا العملاقة و”زيادة رأس المال المتهورة”، فإن الشعور السائد هو أن الحزب الحاكم يشجع على دراسة الذكاء الاصطناعي.
فرصة ذهبية لتطبيقات ثورية
خلال حقبة الهواتف الجوالة، أسس جيل من الشركات الناشئة تقودها “تينسنت” و”مجموعة علي بابا القابضة”، و”بايت دانس”، التي تملك “تيك توك”، قطاعاً قادراً حقاً على منافسة شركات “وادي السيليكون”. وساعد هذا القطاع على إبعاد “فيسبوك” و”يوتيوب” و”واتس آب” عن سوق مزدهرة حجمها 1.4 مليار شخص. ففي مرحلة ما في 2018، كان تمويل شركات رأس المال الجريء في الصين في طريقه لتجاوز نظيره في الولايات المتحدة، حتى أدت الحرب التجارية (بين البلدين) إلى تفاقم التراجع الاقتصادي. يُرجّح أن يتكرر هذا الوضع، التي تزدهر فيه الشركات المحلية في غياب منافساتها الأميركية، مرة أخرى في ساحة الذكاء الاصطناعي التي مُنع من دخولها “تشات جي بي تي” و”بارد”، الذكاء الاصطناعي الذي طورته “غوغل”.
قد ينتهي المطاف بنماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية الضخمة بأن تتصرف مثل نظامي تشغيل الهواتف الذكية، “أندرويد” و”آي أو إس” اللذين وفرا البنية التحتية أو المنصات التي حققت بسببها “تينسنت” و”بايت دانس” و”أنت غروب” (Ant Group Co) ابتكارات جديدة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي في تطبيق “وي تشات” (WeChat)، والمقاطع المصورة في تطبيقي “دوين” (Douyin) و”تيك توك”، والمدفوعات في تطبيق “علي باي”. وتكمن الفكرة في أن خدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي قد تعجل بظهور منصات جديدة تستضيف موجة من التطبيقات الثورية للشركات والمستهلكين.
يمثل ذلك منجم ذهب محتمل لقطاع يخرج لتوه من أزمة تضييق استمرت لعامين على شركات الإنترنت أمرها الرئيس شي، والتي تعطشت خلالها شركات التكنولوجيا للنمو المتواصل الذي شهدته في الأعوام السابقة. فلا يريد أي شخص حالياً أن يضيّع ما أطلق عليه الرئيس التنفيذي لشركة “إنفيديا”، ينسين هوانغ، “لحظة أيفون الفارقة” في حياتهم.
في هذا الصدد، يقول دانييل إيفز، كبير المحللين في شركة “ود بوش سكيوريتيز” (Webush Securities): “إنه صراع محتدم يجري في الولايات المتحدة والصين معاً. يتعامل قطاع التكنولوجيا في الصين مع بيئة تنظيمية أشد صرامة حول الذكاء الاصطناعي، ما قد يعيقه في تلك المعركة عن الصدارة. إنها فرصة عالمية في سوق يبلغ حجمها 800 مليار دولار خلال العقد القادم، حسب توقعاتنا للذكاء الاصطناعي، وما زلنا في المراحل المبكرة للغاية”.
الأمل في الشركات الناشئة
يتضح التصميم على اللحاق بشركة “أوبن إيه آي” في الطريقة العشوائية ظاهرياً التي طرح فيها روبوتات ذكاء اصطناعي في غضون أشهر من قبل رؤساء شركات مثل “بايدو” و”سينس تايم” (SenseTime Group Inc) و”علي بابا”.
كما انضم إليها بعض الأسماء الشهيرة في المجال، وتتضمن هذه المجموعة وانغ تشانغهو، المدير السابق لشركة “بايت دانس إيه آي لاب”(ByteDance AI Lab)، وجو بوين، الرئيس السابق لقسم الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية بشركة “جيه دي دوت كوم”، ووانغ هوي وِن، الشريك المؤسس لشركة “ميتوان”، ورئيسها الحالي وانغ شينغ، ومستثمر رأس المال الجريء، كاي-فو لي الذي اكتسب شهرته بتمويل الشركات، ومنها شركتا “ميتو” (Meitu) و”جيهو” (Zhihu).
جانغ ياقين، الرئيس السابق لشركة “بايدو”، والذي يشغل حالياً منصب عميد معهد بحوث الصناعة بجامعة تسينغوا، ويشرف على عدد من المشروعات الناشئة، قال لوسائل الإعلام الصينية في مارس إن المستثمرين طاردوه يومياً تقريباً في هذا الشهر. ويُقدِّر أن هناك نحو 50 شركة تعمل على تطوير نماذج لغوية ضخمة في أرجاء البلد. كما أن وانغ تشانغهو، كبير الباحثين السابق في شركة “مايكروسوفت ريسيرش” قبل أن يلتحق بشركة “بايت دانس” في 2017، قال إن عشرات المستثمرين تواصلوا معه عبر “وي تشات” في يوم واحد، عندما استعد لتأسيس شركته الناشئة للذكاء الاصطناعي التوليدي. وقال وانغ لبلومبرغ: “إنها فرصة لا تتكرر إلا مرة في العقد. فرصة للشركات الناشئة لتأسيس شركات تضاهي الشركات العملاقة”.
عقبات في طريق الصين
يستهدف العديد من الشركات الوليدة الجمهور المحلي بشكل مباشر، ما يفاقم المخاوف الغربية حول التكنولوجيا الصينية. حتى مع ذلك، فهناك فرصة متاحة في سوق للمستهلكين محصور عليهم، صادف أن يكون أيضاً أكبر ساحة للإنترنت في العالم. كما يجري العمل على تطبيقات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، مثل روبوت محادثة يساعد المصنعين على تتبع اتجاهات الاستهلاك السائدة، وكذلك نظام التشغيل الذكي الذي يوفر الصحبة لمكافحة الاكتئاب، والأدوات الذكية في الشركات التي تدون الاجتماعات وتحلل نتائجها.
مع ذلك، أثبتت النماذج التجريبية الصينية أن أغلبها ما يزال أمامه الكثير من التطوير. يشير المشككون إلى أن الابتكار الحقيقي يحتاج إلى الدراسة والتجربة الحرة التي ترعاها الولايات المتحدة، لكنها مقيدة في الصين. كما أشاروا إلى أن الرقابة المطلقة، بالتبعية، تعني أن مجموعات البيانات التي يستخدمها الطامحون الصينيون معيبة بطبيعتها، ومقيدة بشكل اصطناعي.
“يسعى المستثمرون خلف التصور. مع ذلك، لم يتضح بعد الاستخدام التجاري لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي وتأثيرها على سلاسل القيمة بالقطاع”، حسب غرانت بان، المدير المالي لشركة “نواه” (Noah Holdings)، والتي تستثمر شركتها التابعة “غوفر” (Gopher) في أكثر من 100 صندوق استثماري في الصين، من ضمنها “سيكويا تشاينا” (الذي أصبح اسمه حالياً “هونغ شان”)، و”جن فند” (ZhenFund).
ثم هناك قوانين بكين الخاصة بالذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث أشارت أعلى جهات الرقابة على الإنترنت إلى أن المسؤولية عن خوارزميات التدريب وتطبيق الرقابة سيتحملها مقدمو المنصات.
قال شياومنغ لو، مدير قسم الجيوتكنولوجيا في “يوراسيا غروب” (Eurasia Group): “نظام الرقابة في بكين سيقلل من فرص نجاح التطبيقات على غرار (تشات جي بي تي) بشكل خطير مقارنة بنظيراتها الأميركية”.
مثَّلت مجموعات الرقائق عالية الأداء، التي تنتجها شركات مثل “إنفيديا” و”أدفانسد مايكرو ديفايسز”، عاملاً حاسماً في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية الضخمة. لكن واشنطن حظرت تصدير الرقائق الأعلى قدرة من الولايات المتحدة. تدرس إدارة بايدن حالياً تشديد القيود في الشهور المقبلة، لتقضي بشكل أساسي على الرقائق الأقل قدرة التي طورتها “إنفيديا” للمستهلكين الصينيين، حسب ما نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، نقلاً عن مصادر لم تسمِّها.
لكن تلك العقبات لم تمنع الطامحين في الصين، مثل “بايدو” و”آي فلاي تك” (iFlytek Co) ومجموعة الشركات الناشئة الجديدة، من تركيز اهتمامهم على اللحاق بأميركا في مجال الذكاء الاصطناعي، بل والتفوق عليها.
يشير المديرون التنفيذيون، ومنهم العاملون بشركة “تينسنت”، إلى أن النماذج يمكنها استخدام عدد أكبر من مجموعات الرقائق لتعويض الأداء الأقل. وقال وانغ مؤسس “بايتشوان” إنه تمكن من النجاح باستخدام رقائق “إنفيديا” من طراز “إيه 800″، وإنه سيحصل على مزيد من الرقائق من طراز “إتش 800” الأكثر قدرة في يونيو الجاري.
آخرون، مثل لان جين جونغ، الخبير بمعهد “غوغل” لبحوث الذكاء الاصطناعي، والذي أسس شركة “ويست ليك شين تشن”، ومقرها في هانغتشو، في 2021، يستخدمون مقاربة هجينة مرتفعة التكلفة. تستخدم الشركة الممولة من “بايدو فينتشرز” (Baidu Ventures) عدداً يقل قليلاً عن ألف وحدة معالجة رسوم لتدريب النموذج، ثم يستخدمون الخدمات السحابية المحلية في الاستدلال أو تغذية البرنامج. وقال لان إن تكلفة تأجير رقاقة طراز “A100” من الخدمات السحابية تتراوح ما بين 7 و8 يوانات للساعة، ووصفها بأنها “باهظة التكلفة”.
وقال مؤسس “بايدو”، الملياردير روبن لي، والذي كشف في مارس عن أول رد من الصين على “تشات جي بي تي”، إن أميركا والصين تشكلان معاً نحو ثلث القدرة الحاسوبية في العالم. لكن ذلك وحده لن يشكل فارقاً لأن الابتكار ليس سلعة يمكن شراؤها.
وبينما يمكن لشركات التكنولوجيا العملاقة، بدءاً من “علي بابا” ووصولاً إلى “بايت دانس”، تحقيق مكاسب بوضع الذكاء الاصطناعي التوليدي على رأس خطوط الإنتاج الحالية، يشير بعض المراقبين إلى أن الشركات الناشئة هي من قد يمكنها إحداث ثورة، بالطريقة ذاتها التي تحولت بها “علي بابا” و”تينسنت” من شركتين ضئيلتي رأس المال إلى رائدتين في القطاع.
ويتساءل واين شيونغ، شريك بشركة “تشاينا غروث كابيتال” (China Growth Capital): ” لماذا لا يرغب الناس في الاستثمار في المدى الطويل والتطلع لطموحات أكبر؟ الآن وبعد أن كلفنا الجانب الآخر بهذه المهمة، ستتمكن الصين من اللحاق بالركب”.