انشغل العالم في الأسبوع الماضي بحادثة اختفاء الغواصة “تيتان” (Titan) التابعة لشركة “أوشن غيت” (OceanGate) والتي انقطع الاتصال بينها وبين السفينة المصاحبة لها بعد ساعة و45 دقيقة من بدء عملية الغوص في رحلة استكشافية لحطام السفينة الغارقة “تايتنك” (Titanic) تستغرق ساعتين.
كان على متن الغواصة 5 من أثرياء العالم من بينهم المدير التنفيذي لشركة “أوشن غيت” ريتشارد راش، قبل أن يكتشف خفر السواحل بقايا حطام الغواصة في قاع المحيط على بعد 500 متر من مقدمة السفينة تايتنك، وإعلان وفاة الركاب الخمسة بشكل مأساوي نتيجة “انفجار كارثي إلى الداخل” للغواصة، فما الذي حدث بالضبط وما أسبابه؟
“الانبجار” والموت المفاجئ
الانفجار إلى الداخل أو “الانبجار” هو عملية تنهار فيها الأجسام على نفسها نتيجة ضغط من الخارج إلى الداخل، وهو عكس عملية الانفجار التي يكون اتجاه الضغط فيها من الداخل إلى الخارج، وغالبًا ما يتضمن الانبجار اختلافًا بين الضغط الداخلي (الأدنى) والخارجي (الأعلى) والذي يكون كبيرًا جدا بحيث تنهار البنية إلى الداخل من تلقاء نفسها، وهذا ما حدث بالضبط للغواصة “تيتان” التي تحطمت من الخارج نتيجة للضغط الهيدروستاتيكي للمياه المحيطة.
يظهر فيديو متداول على الإنترنت يحاكي حادثة انبجار الغواصة تيتان حيث ينهار جسدها وتتلاشى في غضون أجزاء من الثانية، وهو ما يؤكده البروفيسور ستيفانو بريزولارا من جامعة “فرجينيا تك” في حديثه لقناة “إيه بي سي” (ABC) الإخبارية، حيث يقول إنه “في حالة الانفجار الداخلي، يمكن اعتبار الجزء الداخلي من الأسطوانة مفرغا عمليا، بينما يكون ضغط الموجة التي تخترق الهيكل أكبر بـ400 مرة. وهذا يتسبب في تدفق المياه بقوة من خارج الأسطوانة إلى الداخل بسرعة لا تصدق؛ نحن نتحدث عن تدفق المياه بسرعة تصل إلى ألف كيلومتر في الساعة”.
يقول الخبراء إنه على عمق 4 آلاف متر تحت سطح الماء، فإن الضغط يعادل نحو 5800 بي إس آي (رطل لكل بوصة مكعبة)، وهذا الضغط الهائل يشير إلى أن وفاة ركاب الغواصة حدثت فجأة بسرعة لا تتجاوز 30 ملي ثانية.
يقول الدكتور ديل مولي، المدير السابق للطب تحت سطح البحر والصحة الإشعاعية في البحرية الأميركية، لصحيفة “دايلي ميل” (Daily Mail)، إن الحادث برمته ربما وقع في غضون أجزاء من الألف من الثانية؛ أي إن الركاب ربما لم يكونوا قد لاحظوا حدوث ذلك، ويضيف “كان من الممكن أن يكون الأمر مفاجئًا لدرجة أنهم لم يعرفوا حتى أن هناك مشكلة أو ما حدث لهم”.
خليط غير متجانس
يتكون جسم الغواصة من مكونين رئيسين: الهيكل الخفيف وجسم الضغط، فالهيكل الخفيف للغواصة هو الهيكل الخارجي غير المحكم للماء والذي يوفر شكلًا فعالًا من الناحية الهيدروديناميكية للاحتفاظ بالمياه، مما يساعد الغواصة على الحفاظ على الطفو تحت الماء وعادة ما يكون الهيكل الخفيف مصنوعًا من صفيحة فولاذية رفيعة، وبداخل الهيكل الخارجي يوجد جسم قوي (أو جسم ضغط) يتحمل الضغط الخارجي وله ضغط جوي طبيعي في الداخل، ويتكون جسم الضغط بشكل عام من الفولاذ السميك العالي القوة للأعماق البسيطة، أو التيتانيوم للأعماق الأكبر.
وبالبحث في الأسباب التي قد تؤدي إلى هذه النهاية الكارثية التي حدثت للغواصة “تيتان”، تشير الأدلة إلى أن التركيب الغريب لهيكل الغواصة ربما يكون هو السبب الرئيس في حدوث الكارثة، فبخلاف المعتاد؛ يتكون جسم الضغط للغواصة “تيتان” من التيتانيوم وألياف الكربون المركبة، وهما مادتان ذواتا خصائص مختلفة إلى حد كبير عندما يتعلق الأمر بالغوص العميق.
فالتيتانيوم مرن ويمكن أن يتكيف مع مجموعة واسعة من الضغوط دون أي إجهاد دائم قابل للقياس متبق بعد العودة إلى الضغط الجوي الخارجي؛ فهو يتقلص للتكيف مع قوى الضغط، ثم يتوسع مرة أخرى مع تخفيف هذه القوى، في حين يكون مركب ألياف الكربون أكثر صلابة وليس لديه النوع نفسه من المرونة، وهذا الاختلاف في خصائص المادتين يشير إلى أنه مع تكرار الغوص إلى عمق 4 آلاف متر قد تكون المواد المصنّعة للغواصة فقدت شيئًا من جودتها فأدى ذلك إلى حدوث “التفريغ” الذي يفضي إلى فصل طبقات التعزيز وانهيار هيكل الغواصة.
ثقة زائدة وتحذيرات تم تجاهلها
وبحسب صحيفة “ذا نيويورك تايمز” (The New York Times) الأميركية، ففي عام 2013، بدأ المدير التنفيذي لشركة “أوشن غيت” ريتشارد ستوكتون راش (الذي قضى في حادثة تحطم الغواصة تيتان) الحديث عن إنشاء نموذج أولي لغواصة من ألياف الكربون الخفيفة المغطاة بالتيتانيوم، وهي مادة مستخدمة في صناعة الطيران وبناء المركبات الفضائية ومن شأنها خفض تكاليف التشغيل بشكل كبير، مقارنة ببناء هيكل كامل من الفولاذ والتيتانيوم.
وأجرى العديد من الخبراء حوارات متوترة مع السيد راش في مؤتمر لاختصاصيي المركبات المأهولة تحت الماء في ولاية نيو أورلينز الأميركية، وفقًا لكارل ستانلي الذي أدار غواصة سياحية في هندوراس على مدى عقود، حيث قال ستانلي “كان الناس يتجمعون ضده في تلك الغرفة”، وبعد ذلك بوقت قصير حذر أكثر من 36 من قادة الصناعة ومستكشفي أعماق البحار وعلماء المحيطات السيد راش في رسالة من أن نهج الشركة “التجريبي” قد يؤدي إلى مشاكل “كارثية” محتملة في مهمة “تيتان”.
وقال ويل كونين، رئيس لجنة جمعية التكنولوجيا البحرية للمركبات المأهولة تحت الماء، يوم الخميس، “لقد حذرنا؛ أنت تسير بسرعة كبيرة، وفكرة تجاوز المعايير الحالية يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة، أنت لا تعرف ما لا تعرفه، إلا أن السيد راش هدد في مكالمة هاتفية بمغادرة مجموعة الصناعة بالكامل”.
كما أعرب اثنان من موظفي “أوشن غيت” السابقين بشكل منفصل عن مخاوف تتعلق بالسلامة بشأن “تيتان”، حيث زعم ديفيد لوشريدج الذي عمل مديرًا للعمليات البحرية بين عامي 2016 و2018 في دعوى رفعها للمحكمة أنه أعرب عن مخاوفه بشأن تصميم الغواصة واختبار الشركة لهيكلها ونافذتها المصنوعة من الأكريليك التي يبلغ سمكها 7 سم وتكون آمنة في حدود عمق 1500 متر فقط قبل إنهاء خدمته، كما شكك أيضًا في خطط الشركة لتثبيت نظام مراقبة على السفينة للكشف عن بداية انهيار الهيكل.
وعلى موقعها على الإنترنت، قالت “أوشن غيت” في عام 2019 إن عملية الاعتماد كانت بطيئة جدا لمواكبة وتيرة الابتكار السريع للشركة، وقد وصف السيد راش الغواصات بشكل عام بأنها “آمنة بشكل فاحش” واشتكى من أن الصناعة كانت حذرة للغاية، وقال راش للصحافي ديفيد بوج في مقابلة العام الماضي “في مرحلة ما، تكون السلامة مجرد هدر محض. أعني، إذا كنت تريد فقط أن تكون آمنًا، فلا تنهض من السرير، لا تركب سيارتك، لا تفعل أي شيء”.