أسواق الأسهم عام 2023 ليست كما تبدو عليه تماما.
للوهلة الأولى، يبدو أن المتشائمين يتعرضون للهزيمة. إذ دخل المستثمرون والمحللون المؤثرون العام متوقعين أن تؤثر سلسلة ارتفاع أسعار الفائدة العنيفة في 2022 بشكل سلبي. كان الإجماع على حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة، ما سيؤدي إلى انخفاض الأسهم.
لم يحدث ذلك، رغم سلسلة إفلاس البنوك الإقليمية في الربيع التي ضاعفت تأثير ارتفاع أسعار الفائدة. لا يزال الاقتصاد الأمريكي ينمو ومؤشر إس آند بي 500، الذي يقيس أداء الأسهم الممتازة الأمريكية ويحدد المسار للمستثمرين حول العالم، ارتفع بأكثر من 14 في المائة هذا العام. مع بقاء أسبوعين على نهايته، يعد هذا بالفعل أحد أفضل نصف عام للمؤشر منذ عقدين.
لكن هذا الارتفاع يقف على بعض الركائز الضعيفة للغاية. إذا استبعدت مجموعة صغيرة فقط من الشركات، جميع الشركات الرائدة في مجال التكنولوجيا، فلن يتحرك المؤشر صعودا.
تقول ريمي أولو-بيتان، مديرة محفظة الأصول المتعددة في شركة شرودرز: “عادة في حال أمور من هذا القبيل، عندما يكون أداء عدد قليل من الأسهم فقط جيدا، فإنك تحصل على مبالغة في التقييم وسلوك يقوم على المضاربة، يضخ الجميع الأموال في هذه الأسهم، وتصبح لدينا فقاعة تكنولوجية أخرى كما فعلنا في أواخر التسعينيات وأوائل القرن الـ21. يمكنك القول إننا ربما نزرع بذور ذلك”.
كون الثقل في القمة، ولا سيما في الأسواق الأمريكية، ليس بالأمر الجديد. يقول فريديريك ليرو، رئيس فريق الأصول المتقاطعة في شركة كارمنياك في باريس: “أصبحت أسهم شركات التكنولوجيا الكبرى في مؤشر إس آند بي الآن في وضع شركات النفط نفسها في الماضي، أو مؤشر نيفتي 50 في الستينيات”. في إشارة إلى الجنون الذي اجتاح الأسهم في عدد صغير من الشركات سريعة النمو مثل آي بي إم، وكوداك وزيروكس ودفعها إلى الأعلى قبل حدوث انخفاض كبير. “إنها مشكلة، لكنها مشكلة متكررة”.
لكن وفقا لكثير من المقاييس، فقد وصلت الآن إلى أقصى الحدود، ما يخفي الأداء الرتيب من الأغلبية العظمى من الأسهم ويعقد قرارات الاستثمار لكل من أولئك الذين يختارون الأسهم وأولئك الذين يفضلون تتبع المؤشرات. يحذر البعض من أن ذلك أمر غير مستدام أو علامة على ظروف السوق الغادرة في المستقبل.
أصبح أداء مؤشر إس آند بي 500 الآن الأكثر تركزا منذ السبعينيات. إذ شهدت سبعة من أكبر مكوناته -أبل، ومايكروسوفت، وألفابيت المالكة لجوجل، وأمازون، ونفيديا، وتسلا وميتا- ارتفاعا، وكسبت ما بين 40 في المائة و180 في المائة هذا العام. أما الشركات المتبقية البالغ عددها 493 فهي، بشكل إجمالي، ثابتة.
تهيمن شركات التكنولوجيا الكبرى على المؤشر بدرجة غير مسبوقة. فخمسة فقط من هذه الأسهم السبعة تمثل نحو ربع القيمة السوقية للمؤشر بأكمله. وعند 2.9 تريليون دولار، تبلغ قيمة شركة أبل وحدها أكثر من أكبر 100 شركة مدرجة في المملكة المتحدة مجتمعة.
كسبت شركة نفيديا لصناعة الرقائق، التي تقود موجة حماس المستثمرين تجاه الذكاء الاصطناعي وتطلق توجيهات الإيرادات الخاصة بها للأرباع المقبلة لمصلحة مزيد من التوقعات الصاعدة، 640 مليار دولار من القيمة السوقية هذا العام فقط. وهذا يساوي تقريبا القيمة السوقية المجمعة لبنك جيه بي مورجان وبنك أوف أمريكا مجتمعين، وهما أكبر بنكين في الولايات المتحدة.
يقول إد كول، العضو المنتدب للاستثمارات التقديرية في شركة مان جي إل جي، “إن الأداء المرتفع لشريحة من الأسهم قد أثار تجددا لما يسمى بالخوف من إضاعة الفرص بين بعض المستثمرين”.
يقول “الخطر هو إذا جازفت بكل شيء. بالنسبة إلى الأشخاص الذين وقعوا في حالة الخوف من إضاعة الفرص والذين جازفوا بكل شيء في هذا الموضوع الضيق للغاية، إذا اكتشفت أن هناك منافسين يمكنهم دخول السوق، فلن يتطلب الأمر كثيرا حتى ينعكس وضعك بشكل كبير”.
تتبع المؤشر الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات
كان انفجار الذكاء الاصطناعي دافعا كبيرا على المدى القصير لهذا التركز، لكن التجمع له جذور أعمق. إذ يعكس بعضه ببساطة الريادة العالمية للولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا التي تواجه المستهلك، التي أوجدت على مدى عقود سلسلة من الشركات عالية الربحية والمتينة للغاية من النوع الذي يحبه المستثمرون. حتى وارن بافيت، المستثمر البارز، اشترى أسهما في شركة أبل وبعض أسهم التكنولوجيا الأخرى.
مع نمو رأسمالها السوقي، شكلت هذه الشركات نسبة أكبر من أي وقت مضى من مؤشر إس آند بي 500، الذي مثل معظم مؤشرات الأسهم يزن مكوناته وفقا لقيمتها السوقية. ضاعف ذلك اتجاهين أوسع في السوق. كان أحدهما موجة متسارعة لما يسمى بالاستثمار السلبي، حيث تسعى الصناديق ببساطة إلى تكرار أداء المؤشر عبر تقليد مكوناته. وهذا يعني أنه مع ارتفاع هذه الأسهم، ترتفع أيضا أوزان مؤشرها، ما يجبر الصناديق على شراء مزيد منها.
الاتجاه الآخر كان ما يسمى إي أس جي، وهو أسلوب يركز على الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية إضافة إلى العوامل المالية. فقد دفع الاهتمام المتزايد بالحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية دولارات الاستثمار إلى مجال التكنولوجيا على حساب القطاعات التي تستخدم الكربون بشكل كبير مثل النفط والغاز. غالبا ما يسعى المستثمرون النشطون، والمستثمرون السلبيون، ومطاردو الزخم وصناديق الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية جميعاً إلى الأهداف نفسها.
السؤال الصعب هو ما إذا كان هذا يمثل مشكلة.
من المؤكد أن هذا يعطي انطباعا غريبا عن صحة السوق. يقول مايكل ويلسون، كبير استراتيجيي الأسهم الأمريكية في بنك مورجان ستانلي وأحد أبرز محللي وول ستريت الذين حذروا من تراجع الأسهم، “إن سلسلة المكاسب التي حققتها حفنة من الشركات الكبرى تحجب الضرر الأوسع في السوق”.
قال هذا الشهر “لقد حدثت عملية إعادة تسعير كبرى (…) بقيادة الأسهم ذات الجودة المنخفضة، والدورية وذات رأس المال الصغير”، مكررا أنه يتوقع أن يختتم المؤشر العام عند 3,900 نقطة، وهو ما يمثل انخفاضا 11 في المائة عن المستويات الحالية.
تراقب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الوضع باهتمام، قائلة في بحث حديث “إن النطاق الواسع لعدد قليل من الشركات، إلى جانب الاستخدام الواسع للمؤشرات القابلة للاستثمار في منتجات الاستثمار السلبي، قد زاد من ميل الأسهم إلى التحرك معا، وهي ظاهرة يمكن أن تضخم كلا من الصدمات السلبية والإيجابية”.
حذرت المنظمة الدولية ومقرها باريس من أن ذلك قد يساعد أيضا على كبح نمو الشركات الصغيرة. قالت الدراسة “تشير أبحاث منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في المقام الأول إلى الآثار المحتملة لقدرة الشركات الصغيرة على الوصول إلى التمويل من الأسواق العامة. قد يحد هذا من توافر التمويل المتاح للشركات الصغيرة الإبداعية ونماذج الأعمال الجديدة”.
بشكل غريزي، تثير هذه الظاهرة المتفاقمة قلق المحللين والمستثمرين على حد سواء.
فلطالما حذرت شركة إدارة الأصول الفرنسية توبام عملاءها من أن هذا التركز في أسهم التكنولوجيا يعقد عملية الاستثمار للجميع من المستثمرين الأفراد إلى صناديق المعاشات التقاعدية الكبيرة. إذ يجعل من المستحيل تنويع المخاطر عبر تتبع مؤشر واسع مثل إس آند بي، لكن من الصعب أيضا أن تكون منتقيا للأسهم عندما يكون أداء مجموعة صغيرة فقط من الأسهم جيدا.
يقول أليكس كابرول، العضو المنتدب في الشركة التي تتخذ من باريس مقرا لها “إنه أمر غير منطقي”. ويضيف أن تكشف “هذه الظاهرة ليس مسألة (إذا)، بل مسألة (متى)”، مشيرا إلى أنه أعقبت هذه الحلقات المشابهة السابقة، ولا سيما في فقاعة الدوت كوم في عام 2000، حالات تراجع بشعة.
كما تتعثر الصناديق المشتركة بسبب هذه الديناميكية. وجد التحليل الذي أجراه بنك جولدمان ساكس الشهر الماضي، الذي نظر إلى أكثر من 500 صندوق من هذا النوع بأصول مجتمعة قدرها 2.6 تريليون دولار، أن “التركز الشديد” في مؤشر راسل 1000 للنمو كان يتعارض مع القواعد التي تطالب الصناديق بتنويع محافظها أو الحد من التعرض للشركات الفردية.
تعني هذه القواعد أن الصندوق المتوسط من صناديق الاستثمار المشتركة الأمريكية ذات رأس المال الكبير يحتفظ بمراكز أصغر في سبعة أسهم، من بينها شركات أبل، ومايكروسوفت ونفيديا، مما تتطلبه مراكزهم في المؤشرات. ونتيجة لذلك، يعاني أداء الصندوق، مقارنة بالمؤشر. وقال البنك “كان الأداء المتفوق لأسهم التكنولوجيا ذات رأس المال الضخم بمنزلة رياح معاكسة كبيرة للصناديق المشتركة الأساسية وذات النمو”.
الحق بالركب أو اسقط
أحد أصعب العناصر بالنسبة إلى مديري الصناديق هو أن التركز يمكن أن يحل بإحدى طريقتين، إما أن يلحق باقي السوق بالقادة، أو يسقط كبار المتداولين.
سرعان ما أصبح هذا أحد أشد النقاشات في مجال التمويل. يتعلق الأمر في جوهره بالسؤال حول ما إذا كان الاقتصاد الأمريكي يتجه نحو ركود يؤدي إلى انخفاض أرباح الشركات أو نحو هبوط اقتصادي ضعيف، وحتى بالكاد يمكن إدراكه، حيث يقوم الاحتياطي الفيدرالي بطريقة ما بالسيطرة على التضخم دون الإضرار بالاقتصاد، ما يسمى “خفض التضخم النقي”.
يقول كول، من شركة مان جي إل جي، “إن اللحاق الدائم بالركب سيعتمد على أرباح رائعة من بقية الشركات في المؤشر”، وهي نتيجة غير مرجحة بالنظر إلى توقعاته منذ أمد طويل بحدوث تباطؤ اقتصادي. ومع ذلك، فإن الانتعاش قصير الأجل “معقول”، حسب قوله. “هل سأخصص رأسمال للعمل عليه؟ لا. لكنه معقول”.
إن بنك جولدمان ساكس أكثر تفاؤلا. ففي هذا الشهر، رفع هدفه لمؤشر إس آند بي 500 لنهاية هذا العام، وتوقع أن يصل إلى 4,500 نقطة، بزيادة قدرها 12.5 في المائة عن توقعاته السابقة ونحو 3 في المائة فوق ما كان عليه بعد ظهر يوم الأربعاء. إذا كان البنك على حق، فسيكون هذا واحدا من أقوى الأعوام بالنسبة إلى المؤشر في العقدين الماضيين.
جزء من أسبابه هو أنه بالنظر إلى الحلقات السابقة من التركز المكثف منذ 1980، كان أداء السوق الواسع محيرا، حيث غالبا ما يتم تداول الأسهم بشكل جانبي لفترات طويلة أو تعاني انخفاضات كبيرة بشكل غير عادي. قال “مع ذلك، في النهاية كان اللحاق بالركب هو النتيجة الأكثر شيوعا”.
تعني وجهة نظر البنك المخالفة للإجماع بشأن الاقتصاد الأمريكي -يحدد احتمال حدوث ركود بنسبة 25 في المائة خلال الأشهر الـ12 المقبلة، مقابل تقدير 65 في المائة من قبل المتنبئ الوسطي- تعني أيضا أنه يعتقد أن اللحاق بالركب صعودا أكثر احتمالية من اللحاق به هبوطا.
وفي السياق نفسه، قال ماكس كيتنر، كبير الاستراتيجيين متعددي الأصول في بنك إتش أس بي سي، “إن ضيق السوق أصبح هاجس المعلقين والمستثمرين المتشائمين”.
كتب في مذكرة للعملاء “اتساع سوق الأسهم الأمريكية سيئ كما كان في أي وقت مضى”. لكنه أضاف أن “هذا في حد ذاته لا يستبعد وجود إشارات تداول قوية وموثوقة”. بشأن هوامش الربح، قد يكون الأمر إيجابيا. وخلصت المذكرة “إذا كان هناك أي شيء، فإن الأداء القوي للأسواق بعد توسع سوق ضعيفة يعد أفضل مقارنة بعندما يكون أداء سوق الأسهم قويا”.
قال المحللون في بنك باركليز “إنهم رصدوا إشارات مبدئية على أن المستثمرين بدأوا في التخلي عن التشاؤوم”. وقال البنك “بعد نحو ثلاثة أشهر من حالة الانتظار والترقب، يبدو أن المستثمرين الحذرين لكن الأثرياء بالنقود أيضا قد استسلموا وبدأوا بمطاردة الارتفاع”.
قال “إن عمليات الشراء كانت تنتشر إلى ما وراء تلك الأسماء في التكنولوجيا فقط، التي يمكن في الواقع أن تكون تمهيدا لتحرر مستدام من نطاق التداول الأخير”.
في الوقت الحالي، تستخدم الجهات الصاعدة والهابطة في السوق على حد سواء ظاهرة الأسواق الضيقة هذه لتعزيز قضيتها. لكن النظام البيئي المالي العالمي الأوسع قد يكون أضعف وأقل تنوعا بالنسبة إليها.
تقول كارمين دي نويا، مديرة الشؤون المالية وشؤون المؤسسات في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، مشيرة إلى بطولة النخبة الأوروبية لكرة القدم “لقد أصبحت أسواق رأس المال دوري أبطال. لا يهيمن عليها كبار المصدرين فحسب، بل أيضا مديرو الأصول الكبار، ومالكو الأصول، ومزودو المؤشرات وشركات التدقيق. هناك تركز في جميع أنحاء السوق”.