في ثالث جلسة للعلاج النفسي لها، طرح المعالج سؤالا مفاجئا “هل كنت تشعرين بالخوف كثيرا عندما كنت طفلة؟”، فأجابت بنبرة دفاعية “بالطبع لا، أنا لا أخاف من أحد، أنا لست شخصا عاطفيا على الإطلاق”، وبعد دقائق انتهت جلستها ورحلت، ولكن السؤال بقي معها، فقد كان بمثابة قنبلة انفجرت داخلها وأخرجت ذكريات سنوات اعتادت على دفنها وعدم مواجهتها.
كانت هذه نقطة تحول في حياة آمنة -التي كانت تبلغ من العمر 23 عاما حينها- إذ بدأت ذكريات سنوات عمرها الماضية تنهال عليها وكأنها حدثت الآن، واسترجعت كل ما مرت به من أحداث مؤلمة شعرت خلالها بالخوف الشديد ولكن لم تملك وقتها شخصا تفضي إليه بأمان أسرارها؛ فاحتفظت بخوفها داخلها.
وبعد حوالي عامين من المعاناة من “اضطراب ما بعد الصدمة” (PTSD) خضعت خلالها للعلاج النفسي المكثف، بدأت آمنة في التعافي من آثار ذكرياتها المؤلمة وخرجت مجددا إلى العالم، ولكن خرجت وكأنها شخص آخر، فقد زلزلها الألم وغيّر معتقداتها ونظرتها للعالم ولمن حولها.
وفي محاولة للتعلم أكثر مما مرت به، كانت آمنة تبحث في عواقب اضطراب ما بعد الصدمة، وتوقعت أن تظهر لها دراسات حول الآثار النفسية السلبية طويلة الأمد التي يعاني منها المتعافون، لكنها دهشت عندما وجدت أن ألم الصدمات النفسية يمكن أن يترك أثرا إيجابيا عميقا في حياة المتعافين، ويحدث تحولات إيجابية طويلة الأمد في شخصيتهم.
منحة من قلب المحنة
تعرفت آمنة على مصطلح “نمو ما بعد الصدمة” (Post-traumatic growth) الذي صاغه أستاذان في علم النفس بجامعة كارولينا الشمالية الأميركية ريتشارد تيديشي ولورانس كالهون، بعد أن شعرا بالدهشة -أيضا- من إبلاغ أغلب الناجين من الصدمات عن تحول حياتهم إلى أفضل مما كانت عليه قبل تجاربهم المؤلمة.
ويختلف نمو ما بعد الصدمة (PTG) عن المرونة؛ إذ تعتبر المرونة أنها القدرة على التكيف والتعافي بشكل أسهل وأسرع من الصدمات والعودة إلى الحالة الطبيعية، أما نمو ما بعد الصدمة فهو الخروج من الصدمات ولكن بتحولات إيجابية والرجوع إلى الحياة بحال أفضل.
وركز العالمان في بحثهما على التغيير في نظرة المتعافين لأنفسهم ولمن حولهم، وكيف يتمكنون من فهم ذاتهم بشكل أوضح وأعمق، ويخرجون بمنحة فريدة من قلب المحنة، وحددا 5 تطورات إيجابية في حياة الفرد بعد التعامل مع الصدمة النفسية هي:
تقدير أكبر للحياة: الشعور بالتقدير والامتنان أكثر للحياة والناس والتجارب.
تحسن فعلي في العلاقات: زيادة قوة الروابط الاجتماعية والشعور بالتقارب مع الآخرين أكثر من قبل، وقدرة أكبر على التعاطف.
منظور جديد: إيجاد قيم واهتمامات جديدة في الحياة ومعنى أسمى لها، والرغبة في تغيير الأشياء التي تحتاج إلى التغيير.
تطور ملحوظ في الشخصية: اكتشاف إمكانيات ونقاط قوة شخصية جديدة، والثقة في القدرة على المرور بالصعاب، وزيادة الاعتماد على الذات.
تغيير روحي: فهم روحاني وارتباط أعمق بالدين.
العوامل المساعدة على التطور النفسي
ينبع نمو ما بعد الصدمة من حاجتنا كبشر للتكيف والبقاء على قيد الحياة، وتسهم أيضا العديد من العوامل في ذلك، منها:
طبيعة الشخصية: تؤثر السمات الشخصية في قدرة الفرد على تجاوز الأزمات، وأوضح ذلك الطبيب النفسي ماثيو سكولت في تقرير بمجلة “فوربس” (Forbes)، وقال “الأشخاص الانبساطيون والمنفتحون للتجارب الجديدة أكثر ميلا من غيرهم لاختبار تطور في شخصيتهم بعد المرور بالصدمات النفسية”.
الدين: أشار ريتشارد تيديشي في حوار مع الجمعية الأميركية لعلم النفس إلى أنه خلال دراساته وجد أن الأشخاص المرتبطين بدينهم لديهم قدرة أكثر من غيرهم على تطوير شخصياتهم بعد الصدمات وتحقيق نمو فعلي في حياتهم وشخصياتهم. وفسر ذلك بأن المتدينين لديهم إجابات عن الكثير من الأسئلة الوجودية، وهو ما يساعدهم على إيجاد معنى من الأحداث الصادمة وتجاوزها.
الجنس: وفقا للجمعية الأميركية لعلم النفس (APA)، تختبر النساء أكثر من الرجال تطورا في حياتهم بعد الصدمات، لكن الفرق صغير نسبيا.
العمر: تقل احتمالية حدوث نمو ما بعد الصدمة عند الأطفال دون سن الثامنة؛ إذ لا يملكون القدرة العقلية للتعامل مع الصدمة، وتزيد الاحتمالية في أواخر مرحلة المراهقة ومرحلة الشباب، إذ تكون لدى الفرد قدرة أكبر على التأقلم والتغيير.
كيف تحقق النضج بعد الصدمات؟
قبل البحث عن كيفية الوصول إلى التحولات الإيجابية في أعقاب أحداث الحياة المؤلمة، يجب مواجهة الصدمة وعدم تجاهلها، فلا يمكن تحقيق هذا النمو دون مواجهة الأزمة أولا.
وأوضحت سيلفي ساكسينا، الأخصائية في علم الاجتماع أن “تجاهل الآثار النفسية السلبية يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الألم، لذلك يجب أن تأخذ الوقت الكافي وتعالج عواقب الصدمة”، وأضافت “اسمح لنفسك بالشعور بالألم والغضب والحزن وأي مشاعر سلبية أخرى، فهذا هو طريق التعافي منها والتعلم عن نفسك والخروج بنتائج مثمرة”.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من الأدوات لتحقيق تطور مثمر في حياة الفرد بعد الصدمات، ومنها:
طلب المساعدة: فكر في الاستعانة بمعالج نفسي لمساعدتك على المرور من الفترة المظلمة عقب التعرض للصدمات النفسية، وتصحيح صورتك الذاتية، وتدريبك على إدارة أفكارك ومشاعرك.
تثقيف النفس: تعلم عن الصدمة وتأثيرها على عقلك وجسمك وعواطفك وعلاقاتك، وخلال رحلة البحث سيزيد وعيك وتتعلم كيف تساعد نفسك للتعافي من آثار الصدمة.
تكوين شبكة دعم اجتماعي: وجود شبكة دعم اجتماعي تشعرك بالأمان للتحدث معهم عن صدمتك يساعدك على تطوير شخصيتك والمرور من الأزمة.
تأمل التجربة الشخصية: إلقاء نظرة أوسع على التغيرات الحياتية التي مررت بها يساعدك على إيجاد معنى والاستفادة منها.
وأوضحت أستاذة علم النفس لي تشامبرز في مقال لموقع “هيلث لاين” (HealthLine)، أن “التفكير في ما مررنا به وكيف تعاملنا معه، يساعدنا على أن نصبح أكثر وعيا بأنفسنا، وأحد الطرق التي تساعد على تأمل التجارب هي كتابة اليوميات والتنفيس عن المشاعر المخزونة”.
وكما قال فيكتور فرانكل العالم النمساوي صاحب المدرسة النفسية الشهيرة “العلاج بالمعنى”، “إذا لم نعد قادرين على تغيير الموقف، فالتحدي الآن هو أن نغير أنفسنا”.