“أنت متصل بالإنترنت على مدار الساعة. لا استثناءات ولا أعذار”. “يتوقع العملاء أن يتم كل شيء على أكمل وجه ويسلم بالأمس”. “لا أعرف، إجابة غير مقبولة أبدا”.
تلقى محامون مبتدئون في مكتب المحاماة الأمريكي بول هاستينجز عرضا تقديميا من زميل أقدم قبل بضعة أسابيع مع هذه العبارات معروضة على شريحة. إن كان ينتابك شك في قسوة شركات القانون الكبرى، فإليك تذكير.
هذا القطاع -إلى جانب القطاعات العليا من الخدمات المصرفية والاستشارات والخدمات المهنية الأخرى، حيث يدفع العملاء رسوما ضخمة لسماع أفضل مشورة مقدمة بسرعة- يشتهر بسمعته التنافسية ومعروف بأماكن عمل مجهدة جدا.
لكن، هل هذا يعني بالضرورة أن هذه بيئات سامة؟ وهل تعوض الرواتب المرتفعة جدا عن ذلك؟
قال متحدث باسم “بول هاستينجز” إن الآراء التي تم التعبير عنها في العرض “لا تعكس آراء الشركة أو شركائها”. مع ذلك، يبدو أن هذا ما يتوقعه بعض المحامين الأكثر خبرة في المهنة من أتباعهم –سواء صرحوا بذلك أم لا.
قال دونالد سول، محاضر بارز في كلية سلون للإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وخبير في ثقافة الشركات، في مقابلة إن “تصميم العمل” -بمعنى محتوى المهام والمسؤوليات والعلاقات وتنظيمها- في هذه الصناعات “يزيد من احتمال نمو الثقافة السامة”.
غالبا ما ينخرط العاملون في هذه القطاعات بوعي وإدراك –فهم ينجحون في وضع شديد التنافسية، كما أن فوران الأدرينالين لحل أكثر المشكلات تعقيدا يبقيهم مستمرين. في المقابل، يتقاضون رواتبهم بسخاء (يبدأ المحامون المؤهلون الجدد في الشركات الكبرى بأكثر من 150 ألف جنيه استرليني) ويكتسبون خبرة عالية المستوى تفتح أبوابا مدى الحياة.
لكن إذا كانت هذه أماكن يتعرض فيها الموظفون لسوء معاملة أو قلة الاحترام أو الإحباط -أو يجبرون على العمل في بيئات مغلقة وتستشري فيها الممارسات غير المقبولة -فالحقيقة هي أنها “سامة” بالفعل، كما يقول سول.
على القادة في البيئات المجهدة جدا أن يكونوا على دراية بالمخاطر في مكان عملهم –يجب، كما يقول سول، أن يطلعوا الموظفين صراحة بشأن ما هو مطلوب قبل الانضمام، ويلزم وجود إجراءات حماية كافية للحفاظ على السلوك تحت السيطرة، ويجب إنزال عقوبات عند حدوث انتهاكات.
مع ذلك، ذكر كل صديق محام تحدثت إليه عن حياته العملية في الشركات الكبرى في المملكة المتحدة والولايات المتحدة سلوكيات يرونها طبيعية تماما، لكن معظم الناس خارج القطاع يجدونها سلوكيات سامة.
شملت العمل طوال الليل بانتظام، وتوقع الرد على البريد الإلكتروني في ساعات الصباح الأولى، واستبعادهم من الارتباطات الاجتماعية بسبب أخطاء، والصراخ عليهم والتقليل من شأنهم في مكان العمل من قبل الرؤساء والأكثر خبرة الذين يأمرونهم بتفويت الأحداث الشخصية المهمة إذا رغبوا في الترقية. هناك عدد قليل من أنظمة الحماية أو العقوبات الموضوعة، ويتم تجاهل المخالفات وينظر إليها على أنها رد فعل لمرة واحدة في البيئات المجهدة.
على منصة فيش باول، الشبكة الاجتماعية للمهنيين، وصف أحد الأعضاء محامي الشركات الكبرى بأنهم يعانون نوعا من أنواع الصدمة النفسية مشابهة لحالة من هم في علاقة مؤذية، ما يجعل المغادرة أمرا مستحيلا عليهم. في الواقع، الشركات نفسها التي تتسم بثقافات لا ترحم غالبا ما تحتل مرتبة عالية في استطلاعات الرضا عن مكان العمل.
مع ذلك، على الرغم من الرغبة في العمل في هذه المنظمات، وحتى لو كنت استثنائيا في وظيفتك، فإن المهنيين القانونيين معرضون لخطر الاحتراق الوظيفي. في المملكة المتحدة يعاني ثلثاهم مشكلات في الصحة العقلية، و20 في المائة يتعرضون للتنمر، أو المضايقة، أو التمييز في العمل.
وتظهر بيانات أمريكية أن المحامين يفكرون في الانتحار أكثر من غيرهم من البالغين بمقدار الضعف، وفقا لدراسة تستند إلى مسح شمل ألفي محام تقريبا. يميل الذين مروا بمستويات عالية من الإجهاد إلى أن تراودهم أفكار انتحارية أكثر 22 مرة من نظرائهم الذين تعرضوا لإجهاد منخفض.
هناك عدة عوامل يمكن أن تعزز السلوك السيئ.
يمكن أن تؤدي نظرة “القطاع ليس ملائما للجميع” إلى إطالة أمد السمية. يتم منح أولئك الذين يمكنهم التعامل معها مكانة النخبة -ينظر إليهم على أنهم أذكياء ومجتهدون وأهل للثقة ومخلصون. أما الذين لا يستطيعون فيتوقع مغادرتهم في النهاية أو يتم تشجيعهم على تقويم أنفسهم- بدلا من أن يغير مكان العمل طبيعة كيفية إنجاز الأمور.
خطط الحوافز وجداول التصنيف تعمل على إدامة الوضع الراهن. الشعور داخل مكاتب المحاماة هو إذا كان الموظفون سعداء بأخذ المال، فلا ينبغي لهم الاعتراض. من جهة أخرى، التصنيفات مثل تلك التي ترتبها جائزة “المحامي الأمريكي” تعتمد فقط على أعلى إجمالي للإيرادات، التي ترتبط بساعات عمل يدفع العميل مقابلها.
يتطلب هدم هذه الثقافة أيضا إيثارا من جانب الزملاء الأكثر خبرة الذين قاسوا المشقة بأنفسهم.
أولئك الذين يعملون برتابة عاما بعد عام في أماكن العمل هذه يأملون أن الأمر يستحق ذلك في نهاية المطاف -لعلهم يصبحون يوما من الأيام شركاء أيضا. إذا حققوا لك، ربما يتذكرون أنه في حين تتم مكافأتهم لتضحياتهم الآن، فإن عديدا من زملائهم خرجوا من السلك القانوني خلال مسيرتهم.