هاشتاق عربي – كلاوس شواب
في عام 2022، ربما تبدأ في الانحسار أخيرا جائحة فيروس كورونا كوفيد – 19 والأزمات التي لا حصر لها التي صاحبتها. لكن حتى في ظل هذا السيناريو الأفضل للأحداث، لا يخلو الأمر من تسونامي من التحديات الجديدة التي تلوح قريبة في الأفق من فشل العمل المناخي إلى تآكل التماسك الاجتماعي. ويستلزم التصدي لهذه التحديات أن يتبنى القادة نموذجا مختلفا للحوكمة.
عندما تحكم مؤسساتنا على النحو اللائق، فإننا نوليها أقل القليل من الاهتمام. فهي ببساطة أشبه ببنية أساسية خفية تدعم الاقتصاد وجميع جوانب النظام الاجتماعي تقريبا. وقد عملت الحوكمة الجيدة بالقدر الكافي في النصف الثاني من القرن الـ 20 على تمكين نمو الدخل وتحقيق السلام الاجتماعي.
لكن اليوم، فقد كثيرون الثقة بقادتهم. ففي مواجهة المخاطر المتصاعدة وفشلنا الجمعي في التصدي لها، بدأنا نبحث عن أسباب المشكلة ومصادرها. يشير بعض المراقبين بأصابع الاتهام إلى القادة السياسيين غير الأكفاء، ويلقي آخرون باللائمة على الرؤساء التنفيذيين من قبيل رجل دافوس وترى أقلية يائسة متنامية مؤامرة نخبوية وراء سيناريو الهلاك الحالي.
غير أن الحقيقة أكثر تعقيدا. ففي صميم فشلنا في التنبؤ بالمخاطر العالمية وإدارتها ليس فقط تغير المناخ وتعمق الانقسامات الاجتماعية بل أيضا عودة الأمراض المعدية إلى الظهور، وأزمات الديون، وعدم كفاية تنظيم التكنولوجيا تكمن مشكلة الحوكمة العالمية التي تظل بلا حل. ويبدو أن مؤسساتنا وقياداتها لم تعد صالحة لتحقيق الغرض من وجودها.
الحق أننا نميل للنظر إلى التاريخ على أنه سلسلة من الأحداث الكبرى الأشبه بالزلازل. لكن تدهور الحكومة العالمية كان في الأغلب الأعم حالة من التآكل التدريجي.
خلال فترة الحوكمة 1.0 بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، اتسم كل من الحوكمة العامة وحوكمة الشركات بقاعدة الرجل الواحد، القائد القوي، والزعيم المنتخب أو غير المنتخب. عمل هذا النمط من القيادة على نحو طيب في المجتمعات حيث كانت تكلفة المعلومات باهظة، وحيث عملت السلطة الهرمية والإدارة بسلاسة نسبيا، وكانت الفوائد المترتبة على التقدم التكنولوجي والاقتصادي تعود على الجميع تقريبا.
ثم أكد نموذج الحوكمة 2.0، الذي ظهر في نهاية ستينيات القرن الـ 20 أولوية الثروة المادية، وتزامن مع صعود رأسمالية المساهمين التي بشر بها رجل الاقتصاد ميلتون فريدمان والتوسع المالي العالمي التدريجي. وكانت الغلبة للطبقة الإدارية الجديدة، المسؤولة فقط أمام المساهمين التي امتدت أياديها إلى مختلف أنحاء العالم. ورغم أن أزمة 2008 المالية العالمية وجهت ضربة قوية لنموذج الحوكمة 2.0، فقد ظلت رؤيته الضيقة سائدة حتى اندلاع جائحة كوفيد – 19.
أذنت الصدمة الاجتماعية والاقتصادية الوحشية التي أحدثتها جائحة كوفيد – 19 بقدوم نموذج الحوكمة 3.0، تهيمن إدارة الأزمات حاليا على عملية صنع القرار، مع تركيز القادة على الفكر العملياتي وما يظهرونه من تجاهل نسبي للعواقب غير المقصودة المحتملة. وأدى هذا النهج قصير الأجل القائم على التجربة والخطأ إلى إدارة عشوائية للجائحة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية.
لكن عندما تنقضي الجائحة، سنحتاج إلى نموذج حوكمة جديد. سيختلف نموذج الحوكمة 4.0 عن النماذج السابقة في عديد من النواحي الأساسية. فأولا، سيعمل على توظيف الفكر الاستراتيجي بعيد الأمد محل إدارة الأزمات القصيرة الأجل السائدة اليوم. ومن الأهمية بمكان أن يستكمل التركيز على المشكلات الحالية مثل الجائحة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وصحة الناس العقلية بالاستعانة بتدابير ترمي إلى التصدي لتغير المناخ والتعويض عن خسارة التنوع البيولوجي والدمار البيئي الناجم عن أنشطة بشرية، ومعالجة التحديات الاجتماعية ذات الصلة مثل الهجرة القسرية.
العامل الثاني في تصنيف الحوكمة العالمية هو وجوب أن تحل الحوكمة 4.0 محل الرؤية الضيقة والنهج الذي يتجه من القمة إلى القاعدة الذي ساد في الماضي. نحن نعيش في عالم شديد التعقيد والترابط، وليس في عالم خطي تتخلل مسيرته قلة من الانقطاعات. هذا يعني أيضا أن الأدوار والمسؤوليات التي يضطلع بها كل صاحب مصلحة في المجتمع يجب أن تتغير. فلم يعد بوسع الأعمال أن تتجاهل تأثيرها الاجتماعي والبيئي، في حين لم يعد من الجائز أن تتصرف الحكومة كأنها وحدها لديها جميع الإجابات.
ثالثا، يجب أن يتوقف التأكيد الحالي على المفهوم الضيق للاقتصاد والمصالح المالية قصيرة الأجل. بدلا من ذلك يجب أن تكون أولوية المجتمع والطبيعة في صميم أي نظام حوكمة جديد – سواء للأعمال أو الحكومة. لا شك أن كيانات التمويل والأعمال تشكل أهمية بالغة، لكنها يجب أن تخدم المجتمع والطبيعة، وليس العكس.
لقد تغير العالم، ويجب أن تتغير معه الحوكمة العامة وحوكمة الشركات. اليوم تعمل التحولات البنيوية الكبرى مثل الثورة الصناعية الرابعة وتغير المناخ على إرباك كل صناعة أو مركز قوة. وتعمل تكنولوجيات مثل سلسلة الكتل على إحلال كيانات لا مركزية ومستقلة في محل المنظمات المركزية والهرمية. ومن الواضح أن فجوات التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والرقمي آخذة في الاتساع.
في الوقت الحالي لا يزال عديد من القادة عالقين في عقلية رأسمالية المساهمين أو نموذج الحوكمة 2.0، في حين لا يزال بعض المجتمعات تفضل قيادة الرجل القوي وبنية الحوكمة 1.0، وما دامت جائحة كوفيد – 19 تشكل تهديدا، فستستمر عقلية الأزمات التي ميزت نموذج الحوكمة 3.0 في الهيمنة على مناقشات مجالس الإدارات ومجالس الوزارات.
لكن عديد من القادة يفكرون بالفعل ويتصرفون كرواد لعصر جديد من الحوكمة. ومن بينهم رؤساء تنفيذيون في مجال الأعمال يدعون إلى توظيف المقاييس البيئية والاجتماعية وتلك الخاصة بالحوكمة، وهناك قادة سياسيون من أمثال إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي وماريو دراجي رئيس الوزراء الإيطالي يكسرون الحدود. وفي المقام الأول من الأهمية يطالب الشباب بمستقبل أفضل.
يبادر أولئك الذين ما زالوا يستخدمون كتيبات الحوكمة من عصور سابقة إلى انتقاد هؤلاء القادة لعدم ثباتهم على مساراتهم. لكن ينبغي لنا أن نرحب بالقادة الذين يبحرون عبر منطقة مجهولة إلى حد كبير، ويتصرفون خارج نطاق مصالحهم واهتماماتهم الضيقة كرواد حقيقيين ويسوقون الحجج لمصلحة اتخاذ تدابير بعينها لمكافحة تغير المناخ ومعالجة الظلم الاجتماعي.
الواقع أن مقاييس الحوكمة المسؤولة المستجيبة اليوم تقيس إلى أي مدى يحتضن القادة مسؤولية أصحاب المصلحة ويرضون بتغليبها على مسؤولية المساهمين. رغم أن قياس مساءلة أصحاب المصلحة لا يزال في مهده، فسيساعد تطوير مقاييس متسقة على تمكيننا من الحكم ما إذا كان القادة يتبنون نظرة أوسع لأدوارهم ومسؤولياتهم أو غير ذلك.
سيجلب القرن الـ 21 عديدا من التحديات غير المسبوقة. وإذا كنا نريد أن ينظر أبناؤنا وأحفادنا إلى التقدم الذي أحرزناه في الماضي بالقدر ذاته من الرضا الذي شعرنا به في نهاية القرن الـ 20، فلا مناص من تطوير نموذج الحوكمة الذي نستعين به.