غير مصنف

هتان بدوية البترا في رحلة الخيبة من السويد إلى المخيم

شارك هذا الموضوع:

نقلا عن – اندبندنت عربية
الكاتب- يوسف ضمرة
اتذكر مطلع رواية “قصة حب” للكاتب الأميركي إريك ساغال في سبعينيات القرن الماضي “ماذا أقول عن فتاة حين تموت وهي في الرابعة والعشرين؟” بعد قراءتي رواية “نيرفانا” (دار ورد 2020) للكاتبة هند خليفات؟ ليس لأن خليفات تروي قصة حب، فمعظم الروايات تنطوي على قصص حب قاسية أو حنونة أو هشة أو صلبة… ولكن إريك ساغال حين كتب روايته فعل كمن يحكي لصديقه ما حدث معه، ببساطة وبسهولة ويسر ومن دون إضافات أو شروح. أعني أن هذا هو التكنيك الذي استخدمه في سرده، وهو ما يعني أنه قائم على الإيهام المطلق، ولكنه ليس الحقيقة بالطبع، حيث يظل نصاً سردياً إبداعياً تماماً.
من المؤكد أن أوليفر عند ساغال كانت له اهتمامات أخرى كإنسان، فهو طالب جامعي وله أحلام وطموحات، ولكنه يتعثر بهذه الحادثة؛ لا أقصد قصة الحب بل النهاية المأساوية لتي لا يتوقعها شاب لفتاة في أوائل العشرينات.
هند خليفات تفعل الشيء نفسه ولكن على طريقتها هي. فبينما تموت جينيفر بيولوجياً في قصة حب وهي مأساة أوليفر بالطبع، فإن سراج العاشق، وربما المعشوق، يموت معنوياً بعد أن يتسبب في ندبة مؤلمة في قلب هُتان.
أول ما يلفت الانتباه هو بساطة الحكي، بحيث يضعنا هذا النموذج من السرد أمام سؤال أزلي: هل يمكن شرح رواية أو تفسيرها من قبل كاتبها؟ ماذا ستقول الروائية لو سألناها؟ غالباً ستقول: لا أعرف. أو ربما تختصر الإجابة بمقولة إن هذا ما حدث حقاً. وهو اختصار مخاتل بالطبع، لأن الروائيين يكذبون، حتى حين يسردون سيرهم الذاتية. هم ليسوا كذبة بالطبع، لكن التخييل هو ما ينقلهم إلى هذا الميدان، فلا يوجد سارد من دون تخييل، ولا يوجد سرد من دون ابتكارات وإضافات وحذف وتقديم وتأخير. وإلا فما هي القييمة الحقيقية للتكنيك؟
تستوقفنا شخصية هُتان الاسم الذي يثير الشكوك أو التساؤلات في الأقل. فهو اسم غير مألوف إن لم يكن مجهولاً تماماً للقسم الأكبر من الناس في مجتمعنا. لكن الروائية لا تأتي على ذلك مطلقاً، وأظنها حسناً فعلت، إذ اكتفت بموجز سريع عن بيئتها وأبيها وأمها. فالأب بدوي من عشائر “البدول” في منطقة البترا المدينة الأثرية الأردنية الذائعة الصيت.
وقلما يخرج من هذه المنطقة من يهتمون بالعلم أو التعليم، لأن الغالبية ترث مهنة الآباء والأجداد، وهي توفير الخيول والعربات لنقل السائحين، أو أي مهنة على هامش السياحة كالرسم بالرمل الملون وبيع أواني الفخار المزور بالطبع، وبالتالي فإن اسم هتان قد يكون معروفاً لدى هذه الجماعة التي نجهلها نحن، ربما كالسياح الأجانب إن لم نقل أكثر. ولكن الغرابة في الاسم لا تنتهي هنا، فإذا كان الاسم مألوفاً لدى جماعة “البدول” فإنه قطعاً ليس كذلك في السويد. فقد تعرف الأب الشاب على سائحة سويدية مدة ثلاث سنوات، لم يلبث أن ذهب بعدها إلى بلدها، وعاش معها خمس سنوات أنجب الأخت الكبرى لهتان وهي عائشة، وبعدها بسنتين أنجب هتان. من الذي أطلق هذا الاسم على شخصيتنا الروائية؟ هل تكون الأم؟ لا نعرف. لكن الأم تموت بعد خمس سنوات فيعود الأب بابنتيه إلى قريته قرب البتراء.
السنوات الخمس في السويد كانت كفيلة بإحداث تغيير ما في ذهنية الرجل البدوي، فيقرر تعليم الفتاة الكبرى عائشة لغتها العربية، ويقرر إرسال ابنتيه إلى المدرسة، ومن دون أي حشو وإنشاء وما لا يلزم، تخبرنا الراوية أنها حصلت على بكالوريوس إعلام من جامعة أردنية، وتحصلت على منحة لإكمال دراستها في “الجامعة الأميركية” في بيروت.
فتاة من أقاصي جنوب الأردن، تنتمي إلى جماعة بدوية، تنتقل إلى إربد وحدها ثم عمان ثم ييروت حيث مقاهي الحمراء وشاطئ المتوسط، وتسكن في الأشرفية حيث الثقافة المنفتحة وغير المتوفرة حتى في عمان نفسها. لا أثر للسويد في الراوية لأنها لم ترها كما ينبغي بعد وفاة أمها وعمرها لا يتعدى السنتيين.
أعود إلى قصة حب لإريك ساغال، لكي أشير إلى مسألة شكسبيرية، فعقدة قصة حب كانت تبدو اجتماعية طبقية، وهي شبيهة بعقدة رومييو وجولييت الاجتماعية حيث حالَ العداء بين عائلتين دون ارتباط الحبيبين. أتوقف هنا لكي أتساءل عن أميركا السبعينيات، وعن مدى اقتراب هذه الحكاية من الواقع الأميركي. وحين أتذكر أنني أقرأ رواية فإنني أبتلع لساني، لأنه ما من أحد يجبرني على أن أصدق من جهة، كما أن لدي كقارئ من الأسباب ما يجعلني أصدق، فيكفي أن يقطع الأب صلته بابنه ليشكل ضغطاً كبيراً على الشاب. لكن الأهم من ذلك كله هو أنني أقرأ سردية مختلقة، مهما كانت درجة القرابة بينها وبين الواقع الموضوعي.
ما أود قوله هو أن قصة الحب التي تعيشها هتان تمتاز بميزتين رئيستين، أولاهما أن العاشق ينتمي إلى قومية غير عربية وهي الكردية بالتحديد، وثانيهما أن هذه القصة تسير بتعرج مع الموت، إذ تعمل هتان مراسلة حربية في العراق، ترسلها الوكالة الإعلامية من بيروت، لتكون وحيدة تماماً، بعد أن تزوجت شقيقتها عائشة من سائح أسترالي من قبل، وكبرت جدتها التي أرسلها والدها إلى بيروت لترافقق هتان.
هذه التقاطعات في حياة هتان تصنع الفرق بين نيرفانا وقصة حب، فهي تعيش حياتها التي تبدو مستقرة، وإنما فوق حبل مشدود كلاعب السيرك الممنوع من الخطأ، لأنه إن أخطأ مرة انتهى، كما جاء في قصيدة لأحمد عبد المعطي حجازي، حيث يسمح للآخرين بارتكاب الأخطاء. فهل كان سراج من هؤلاء الآخرين؟
يضيء سراج “الشاب الكردي الثري” النفق الذي تجد هتان نفسها فيه كمراسلة حربية في بلاد الموت والقتل والدمار، حيث لا تساوي حياة المرء أكثر من رصاصة، وتبدو الحياة أنها تنتصر لعزلتها ووحدتها والمخاطر التي تحيط بها أينما حلت. وربما لهذا تحديداً أطلقت الروائية عليه اسم سراج. هنا تصبح هتان فرداً من عائلة مكونة من الجدة في المنزل، والصديقة اللبنانية لارين التي تبدو الأخت الحقيقية لها، فنحن لا نكاد نعثر على تلك العلاقة بين الشقيقتين هتان وعائشة. وما يجعل الحكاية ثرية إلى حد ما، هي شخصية سراج الذي يبدو مستعداً للمغامرة لأجل لقائها؛ الشخص الذي تمنى لو كان في بيروت في لحظة ما فيكون. ترتبط به إلى حد غريب، وهو ما يجعل خيانته لها لا مفاجأة فحسب، وإنما شيء يشبه سيف عطيل على عنق حبيبته المخلصة والوفية.
ما بين العراق وبيروت وعمان يبرز مخيم اللاجئين السوريين “الزعتري” شمال الأردن. هناك تلتقي هتان ضمن عملها في إعداد دراسات وأبحاث فتاة سورية تدعى سامية، تهتم بالأدب والرسم وتقرأ غيباً لهتان مقطوعة شعرية لأمل دنقل: “استريحي / ليس للدور بقية/ انتهت كل فصول المسرحية”.
بدوية من جنوب الأردن، تصادق فتاة لبنانية وتعيش معها في بيروت. تحب شاباً كردياً معمارياً. تصادق سامية السورية التي ترغب في مغادرة المخيم ولو على صهوة كلمات عبر هاتف فتموت. ميشيل المسيحي الحنون وجدته ماري في بلدة مأدبا. كل هذا جمعته الروائية في عمل روائي قصير، ليطرح علينا أسئلة من الصعب أن نجد لها إجابات مقنعة أو مرضية أو ملائمة. لماذا يفعل الحب بنا هذا كله؟ هل هو خشبة الخلاص التي ما إن نمسك بها حتى نكتشف أنها خرقة بالية؟ لماذا تقوم الحروب؟ لماذا يهاجر الناس ويتركون خلفهم طفولتهم وشبابهم وذكرياتهم وأرواح من كانوا بينهم يوماً ما؟

كيف لعمل روائي أن يترك فينا ندوباً كندبة هتان؟ ذاك لأن الحكاية لا تفسر ولا تُختصر، وذاك لأنها متشابكة. فبينما هتان تذهب إلى العراق مثلاً، نكتشف أن شركة حماية تقوم على أمنها هي وسواها من المراسلين، وأن مسؤول هذه الشركة هو صديق الدراسة الجامعية ميشيل. وبينما تؤمّن هتان هاتفاً لسامية تطل من خلاله على عالم مغاير لعالم المخيم، نكتشف أنها تتسبب بهذا العطاء بمقتل سامية. فاين تكمن النيرفانا بالتحديد؟ تقول مدربة تايلندية إن النيرفانا في التسامح، ولكن هتان لا تستطيع مسامحة سراج على ما سببه لها من خراب في نفسها وروحها.
هنا يأتي دور اللغة، فعلى الرغم من كل ما يتمتع بالحكواتي من مقدرة على التلاعب في الإيقاع، إلا أن اللغة المكتوبة تلعب دوراً مغايراً؛ إنها تسحبنا من أنفسنا بالكلمات الملائمة لندخل عالماً ونقيم فيه، وربما نحتاج وقتاً يتفاوت طولاً للخروج.
هل كانت هند خليفات تحاول الوصول إلى سر النفس البشرية بالكلمات؟ ربما، ولكن الأدب والفن حاولا منذ القدم وسوف يظلان يحاولان ذلك، لنكتشف مع كل قراءة “سراجاً” قد يرشدنا إلى منطقة معتمة، وربما يمارس علينا خديعة لطالما تعرض لها البشر عبر التاريخ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى